وإضافة إِلى ذلك (ووهبنا لهم من رحمتنا) تلك الرحمة الخاصّة بالمخلصين والمخلصين، والرجال المجاهدين في سبيل الله.
وأخيراً (وجعلنا لهم لسان صدق علياً).
إِنّ هذا في الحقيقة إِجابة لطلب ودعاء إبراهيم الذي جاء في الآية (84) من سورة الشعراء: (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) فإنّ أُولئك كانوا يريدون طرد وإِبعاد إبراهيم وأسرته من المجتمع الإِنساني، بحيث لا يبقى لهم أي أثر أو خبر، ويُنسون إِلى الأبد.
إِلاّ أن الذي حدث بالعكس، فإِنّ الله سبحانه قد رفع ذكرهم نتيجة إيثارهم وتضحيتهم واستقامتهم في أداء الرسالة التي كانت ملقاة على عاتقهم، وجعل أسماءهم تجري على ألسنة شعوب العالم، ويُعرفون كأسوة ونموذج في معرفة الله والجهاد والطهارة والتقوى والمقارعة للباطل.
إِنّ "اللسان" في مثل هذه الموارد يعني الذكر الذي يذكر به الإِنسان بين الناس، وعندما نضيف إِليه كلمة صدق، ونقول: "لسان صدق" فإِنّه يعني الذكر الحسن والذكرى الطيبة بين الناس، وإِذا ما ضممنا إِليها "عليّاً" التي تعني العالي والبارز، فإِنّها ستعني الذكرى الجميلة جدّاً التي تبقى بين الناس عن شخص ما.
ومن المعلوم أن إِبراهيم لا يريد بهذا الطلب أن يحقق أمنية في قلبه، بل كان هدفه أن لا يستطيع الأعداء أن يجعلوا تاريخ حياته، الذي كان تربوياً خارقاً للعادة، في بوتقة النسيان، وأن يمحوا ذكره من الأذهان إِلى الأبد، وهو الأنموذج والأسوة الدائمة للبشرية.
ونقرأ في رواية عن أمير المؤمنين علي(ع): "لسان الصدق للمرء يجعله الله في الناس، خير من المال يأكله ويورثه"(1) وبغض النظر عن الجوانب المعنوية، فإنّ حسن السمعة والذكر الحسن بين الناس يمكن أن يكون أحياناً رأس مال عظيم للإِنسان ولأولاده، وأمامنا شواهد حية على ذلك.
وهنا يمكن أن يبرز سؤال، وهو: كيف لم تذكر هنا موهبة وجود إِسماعيل، مع أن اسم يعقوب، حفيد إِبراهيم، قد ذكر صريحاً؟ وفي مكان آخر من القرآن ذكر وجود إِسماعيل ضمن مواهب إِبراهيم، هناك حيث تقول الآية على لسان إبراهيم: (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إِسماعيل وإِسحاق)(2).
الجواب أنّه بالإِضافة إِلى أن اسم إِسماعيل قد ورد مستقلا بعد آيتين أو ثلاث، وقد ذكر فيها بعض صفاته البارزة، إلاّ أنّ المقصود هذه الآية هو بيان استمرار النّبوة في أسرة إِبراهيم، وتوضح كيف أن حسن سمعته وذكره الحسن وتاريخه الحافل قد تحقق بواسطة الأنبياء من أسرته، والذين جاؤوا الواحد تلو الآخرين، ومن المعلوم أن كثيراً من الأنبياء هم من أسرة إِسحاق ويعقوب على مر الأعصار والقرون، وإِن كان قد ولد من ذرية إِسماعيل أعظم الأنبياء، أي نبي الإسلام(ص)، إِلاّ أن استمرار النبوة كان في أولاد يعقوب، ولذلك نقرأ في الآية (27) من سورة العنكبوت، (ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريعة النّبوة والكتاب).
﴿وَوَهَبْنَا لَهُم﴾ للثلاثة ﴿مِّن رَّحْمَتِنَا﴾ نعم الدين والدنيا ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾ ثناء حسنا رفيعا في جميع أهل الأديان عبر باللسان عما يوجد به.