ثمّ تشير بعد ذلك إِلى نعمة أُخرى من أكبر نعم الجنّة فتقول: (لا يسمعون فيها لغواً) فلا كذب، ولا عداء، لا تهمة ولا جرح لسان، لا سخرية ولا حتى كلام لا فائدة فيه، بل الشيء الوحيد الذي يسمعونه هو السلام (إِلاّ سلاماً).
"السلام" بالمعنى الواسع للكلمة، والذي يدل على سلامة الروح والفكر واللسان والسلوك والعمل.
السلام الذي جعل ذلك الجو وتلك البيئة جنة، واقتلع كل نوع من الأذى منها.
السلام الذي هو علامة على المحيط الآمن، المحيط الملي بالصفاء والعلاقة الحميمة والطهارة والتقوى الصلح والهدوء والإطمئنان.
وفي آيات أُخرى من القرآن جاءت هذه الحقيقة أيضاً بتعبيرات مختلفة، ففي الآية (73) من سورة الزمر نقرأ: (وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين).
وفي الآية (34) من سورة ق: (ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود).
وليست الملائكة وحدها التي تحييهم، وليسوا لوحدهم يحيى بعضهم بعضاً، بل إنّ الله سبحانه يحييهم أيضاً، كما حياتهم في الآية (57) من سورة يس: (سلام قولا من رب رحيم).
فهل يوجد محيط أصفى وأجمل من هذا الجوّ المليء بالسلام والسلامة؟
وبعد هذه النعمة تشير الآية إِلى نعمة أُخرى فتقول: (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً).
إِنّ هذه الجملة تثير سؤالين:
أحدهما: هل يوجد في الجنّة صبح وليل؟
وقد جاء جواب هذا السؤال في الرّوايات هكذا: إِنّ الجنّة وإن كانت دائماً منيرة مضيئة، إِلاّ أنّ أهلها يميزون الليل والنهار من قلة النور وزيادته.
والسؤال الآخر هو: إنّه يستفاد من آيات القرآن بوضوح أن كل ما يريده أهل الجنة من الهبات والأرزاق موجود تحت تصرفهم دائماً وفي أي ساعة، فأي رزق هذا الذي يأتيهم في الصبح والمساء فقط؟
ويمكن استخلاص جواب هذا السؤال من حديث جميل روي عن النّبي(ص) حيث يقول: "وتعطيهم طرف الهدايا من الله لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا"(2).
ويستفاد من هذا الحديث أن هذه الهدايا الممتازة التي لا يمكن بيان ماهيتها حتى بالحدس والتخمين، نعم قيمة جداً، تهدى إِلى هؤلاء بكرة وعشياً مضافاً إِلى سائر نعم الجنّة.
ألا يدل تعبير الآية، والحديث الذي ذكر، على أنّ حياة أهل الجنّة ليست على وتيرة واحدة، بل إِن لهم في كل صباح ومساء موهبة جديدة ولطف جديد يعمهم ويشملهم!؟
أليس معنى هذا الكلام أنّ السير التكاملي للإِنسان سيستمر هناك، بالرغم من أنّه لا يعمل عملا، غير أنّه سيديم سيره التكاملي بواسطة معتقداته وأعماله في هذه الدنيا؟!
﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا﴾ قولا لا طائل تحته ﴿إِلَّا﴾ لكن يسمعون ﴿سَلَامًا﴾ من الملائكة عليهم أو من بعضهم على بعض أو الاستثناء متصل أي إن كان للتسليم لغوا فلا يسمعون سواه ﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ أي على قدرهما في الدنيا إذ لا نهار فيها ولا ليل بل ضوء ونور، وقيل أريد دوام الرزق.