والشاهد الآخر على هذا التعبير هي الآية (34) من سورة القصص: (وأخي هارون هو أفصح مني لساناً).
واللطيف في الأمر أن "أفصح" من مادة فصيح، وهي في الأصل كون الشيء خالصاً من الشوائب، ثمّ أُطلقت على الكلام البليغ المعبر الخالي من الحشو والزيادات.
وعلى كل حال، فإِنّ القائد والقدوة والموفق والمنتصر هو الذي يمتلك إِضافة إِلى سعة الفكر وقدرة الروح، بياناً أخاذاً بليغاً خالياً من كل أنواع الإِبهام والقصور.
ولما كان إِيصال هذا الحمل الثقيل - حمل رسالة الله، وقيادة البشر وهدايتهم، ومحاربة الطواغيت والجبابرة - إِلى المحل المقصود يحتاج إِلى معين ومساعد، ولا يمكن أن يقوم به إِنسان بمفرده، فقد كان الطلب الرابع لموسى من الله هو: (واجعل لي وزيراً من أهلي).
"الوزيز" من مادة الوزر، وهي في الأصل تعني الحمل الثقيل، ولما كان الوزراء يتحملون كثيراً من الأحمال الثقيلة على عاتقهم، فقد أطلق عليهم هذا الإِسم، وكذلك تطلق كلمة الوزير على المعاون والمساعد.
أمّا لماذا طلب موسى أن يكون هذا الوزير من أهله؟ فسببه واضح، لأنّه يعرفه جيداً، ومن جهة أُخرى فإنّه أحرص من غيره، فكم هو جيد وجميل أن يستطيع الإِنسان أن يتعاون مع شخص تربطه به علائق روحية وجسمية؟!
ثمّ يشير إِلى أخيه، فيقول: (هارون أخي) وهارون - حسب نقل بعض المفسّرين - كان الأخ الأكبر لموسى، وكان يكبره بثلاث سنين، وكان طويل القامة، جميلا بليغاً، عالي الإِدراك والفهم، وقد رحل عن الدنيا قبل وفاة موسى بثلاث سنين(2).
وقد كان نبيّاً مرسلا كما يظهر من الآية (45) من سورة المؤمنون: (ثمّ أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين).
وكذلك كانت له بصيرة بالأُمور وميزاناً باطنياً لتمييز الحق من الباطل، كما ورد في الآية (48) من سورة الأنبياء: (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء).
وأخيراً فقد كان نبيّاً وهبه الله لموسى من رحمته: (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيّاً)(3)، فقد كان يسعى جنباً إِلى جنب مع أخيه في أداء هذه الرسالة الثقيلة.
صحيح أن موسى(ع) عندما طلب ذلك من الله في تلك الليلة المظلمة في الوادي المقدس حيث حُمّل الرسالة، كان قد مضى عليه أكثر من عشر سنين بعيداً عن وطنه، إلاّ أنّ ارتباطه - عادة - بأخيه لم يقطع بصورة كاملة، بحيث أنّه يتحدث بهذه الصراحة عنه، ويطلب من الله أن يشاركه في هذا البرنامج الكبير.
﴿وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي﴾.