لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وأخيراً، فإنّ الله يأمرهما أن يُفهماه العاقبة المشؤومة للتمرّد على هذه الدعوة وعصيانها، بقولهما له: (إنّا قد اُوحي إلينا أنّ العذاب على من كذّب وتولّى). من الممكن أن يتوهّم متوهّم عدم تناسب هذه العبارة والحوار الملائم اللذين كانا قد اُمرا بهما. إلاّ أنّ هذا خطأ محض، فأي مانع من أن يقول طبيب حريص باُسلوب مناسب لمريضه: كلّ من يستعمل هذا الدواء سيشفى وينجو، وكلّ من يتركه فسينزل به الموت. إنّ هذا بيان لنتيجة التعامل غير المناسب مع واقع ما، ولا يوجد فيه تهديد خاص، ولا شدّة في التعامل. وبتعبير آخر: فإنّ هذه حقيقة يجب أن تقال لفرعون بدون لفّ ودوران، وبدون أي تغطية وتورية. بحوث 1 - قدرة الله العجيبة لقد رأينا كثيراً - على مرّ التاريخ - اُناساً أقوياء هبّوا للوقوف بوجه الحقّ، إلاّ أنّ الله سبحانه لم يستخدم ويعبّىء جنود الأرض والسّماء من أجل سحقهم وتدميرهم في أي مورد من الموارد، بل إنّه يغلبهم بسهولة وبساطة، وبصورة لا تخطر على ذهن أحد، خاصةً وأنّه في كثير من الموارد يبعث هؤلاء نحو أسباب موتهم، ويوكل مهمّة إعدامهم إليهم أنفسهم! ونرى في قصّة فرعون هذه، أنّ عدوّه الأصلي - أي موسى - قد تربّى في أحضانه، وهو الذي رعاه، ونشأ في كنفه! ومن الطبيعي أنّ ذلك كان بتخطيط الله سبحانه. والأروع من ذلك أنّ قابلة موسى(ع) - طبقاً لنقل التواريخ - كانت من الأقباط، والنجّار الذي صنع صندوق نجاته كان من الأقباط أيضاً، والذين أخرجوا الصندوق من الماء كانوا من حرّاس فرعون، والذي فتح الصندوق كانت إمرأة فرعون، واستُدعيت اُمّ موسى من قبل أتباع فرعون لتكون مرضعة له، وكانت مطاردة موسى (ع) بعد حادثة قتل الرجل القبطي قد تمّت من قبل الفراعنة، وكانت سبب هجرته إلى مدين ليقضي فترة من التعليم والتكامل في مدرسة النّبي "شعيب". نعم، عندما يريد الله سبحانه أن يظهر قوّته فهكذا يفعل، ليعلم كلّ العصاة والمتمردّين أنّهم أصغر من أن يقفوا أمام إرادة الله ومشيئته. 2 - التعامل المناسب مع الأعداء إنّ أوّل أوامر القرآن من أجل النفوذ إلى قلوب الناس - مهما كانوا ضالّين ومنحطّين - هو التعامل المناسب المقترن بالمحبّة والعواطف الإنسانية، أمّا التوسّل بالعنف فإنّه يتعلّق بالمراحل التالية حينما لا يؤثّر التعامل برفق، فالهدف هو جذب الناس ليتذكّروا، وليبصروا طريقهم، أو أن يخافوا من العواقب المشؤومة للعمل السيء (لعلّه يتذكّر أو يخشى). إنّ كلّ عقيدة يجب أن تمتلك جاذبية، ولا تبعد الأفراد عنها بدون مبرّر، وقصص ووقائع الأنبياء وأئمّة الدين (عليهم السلام) تبيّن بوضوح أنّهم لم ينحرفوا عن هذا المنهج والمسير أبداً طوال حياتهم. نعم، من الممكن أن لا تؤثّر أساليب المحبّة واللطف في القلوب الداكنة عند بعض الناس، ويكون الطريق مقتصراً على إستعمال العنف في المكان المناسب، إلاّ أنّه ليس قانوناً عامّاً وأساسيّاً للبدء في العمل، فإنّ المحبّة هي البداية والمسلك الأوّل، وهذا هو الدرس الذي تذكره لنا الآية آنفة الذكر. ممّا يلفت النظر أنّنا نقرأ في بعض الرّوايات: إنّ موسى كان مأموراً بأن ينادي فرعون بأحسن أسمائه، فربّما يؤثّر ذلك في قلبه المظلم. 3 - هل يوحى إلى غير الأنبياء؟ لا شكّ أنّ للوحي في القرأن الكريم معاني مختلفة: فقد جاء أحياناً بمعنى الصوت الواطىء، أو القول همساً. وهذا هو المعنى الأصلي لهذا اللفظ في اللغة العربية. وجاء أحياناً بمعنى الإشارة الرمزية إلى شيء ما، مثل: (فأوحى إليهم أن سبّحوا بكرةً وعشيّاً)(3). وأحياناً بمعنى الإلهام الغريزي، مثل (أوحى ربّك إلى النحل) (4). وأحياناً بمعنى الأمر التكويني، الأمر الذي يصدر بلسان الخلقة، مثل (يومئذ تحدث أخبارها بأنّ ربّك أوحى لها)(5). وورد أحياناً بمعنى الإلهام الذي يلقى في قلوب المؤمنين، وإن لم يكونوا أنبياء أو أئمّة، مثل: (إذ أوحينا إلى اُمّك ما يوحى)(6). إلاّ أنّ أهمّ موارد إستعماله في القرآن المجيد هي النداءات الإلهيّة الخاصّة بالأنبياء، مثل: (إنّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيّين من بعده)(7). فبناءً على هذا، فإنّ لكلمة الوحي معنى واسعاً وجامعاً يشمل هذه الموارد، ولهذا فسوف لا نعجب من إستعمال كلمة الوحي في شأن اُمّ موسى. 4 - سؤال وجواب من الممكن أن يتساءل البعض عند قراءة هذه الآيات، وهو: لماذا يقلق موسى ويضطرب ويتردّد مع تلك الوعود الإلهيّة، إلى أن يقول الله سبحانه له بصراحة: إذهبا فإنّني معكما أسمع كلّ الكلام، وأرى كلّ شيء، ولا مجال للقلق مطلقاً؟ ويتّضح جواب هذا السؤال من أنّ هذه المهمّة كانت ثقيلة جدّاً، فإنّ موسى(ع) - الذي كان راعياً للأغنام - يريد أن يذهب مع أخيه فقط إلى حرب رجل قوي مقتدر، ومتمرّد عاص، والذي يحكم بلداً قويّاً في ذلك الزمان. ثمّ إنّ هذه الدعوة تبدأ من دعوة فرعون نفسه، لا أن يذهبا أوّلا إلى الآخرين ليعدّا الأنصار والجيوش، بل يجب أن يقدحوا أوّل شرارة في قلب فرعون، وهذه في الحقيقة مهمّة معقّدة جدّاً، وصعبة للغاية. إضافةً إلى أنّ للعلم والمعرفة درجات ومراتب، فكثيراً ما يعلم الإنسان بشيء يقيناً، إلاّ أنّه يرغب أن يصل إلى مرحلة علم اليقين والإطمئنان المطلق، كما أنّ إبراهيم مع إيمانه القطعي بالمعاد، فإنّه طلب من الله أن يريه مشهداً من إحياء الموتى في هذه الدنيا، ليطمئن أكثر. ﴿إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ﴾ بما جئنا به ﴿وَتَوَلَّى﴾ أعرض عنه فأتياه وقالا له ما أمرا به.