لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
فأجابه موسى مباشرةً بجواب جامع جدّاً، وقصير في الوقت نفسه، عن الله: (قال ربّنا الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى) ففي هذه العبارة الموجزة إشارة إلى أصلين أساسيين من الخلقة والوجود، وكلّ واحد منهما دليل وبرهان مستقل يوصل إلى معرفة الله: الأوّل: إنّ الله سبحانه قد وهب لكلّ موجود ما يحتاجه، وهذا أمرٌ في غاية الأهميّة ممّا يقتضي تأليف عدّة كتب، بل إنّ كثيراً من الكتب قد اُلّفت في هذا المجال. إنّنا إذا دقّقنا قليلا في النباتات والحيوانات التي تعيش في كلّ منطقة، سواء الطيور، أو الحيوانات البحرية، أو الحشرات والزواحف، فسنرى أنّ لكلّ منها إنسجاماً تامّاً مع محيطها الذي تعيش فيه، وكلّ ما تحتاجه فهو موجود تحت تصرّفها، فإنّ هيكل الطيور قد هيّئها للطيران من ناحية شكلها ووزنها وحواسها المختلفة، وكذلك تكوين وبناء الحيوانات التي تعيش في أعماق البحار. والثّاني: مسألة هداية وإرشاد الموجودات، وقد جعلها القرآن بإستعماله (ثمّ) في الدرجة الثّانية بعد تأمين الإحتياجات. إنّ من الممكن أن يمتلك الإنسان أي شيء من أسباب الحياة، إلاّ أنّه يجهل كيفيّة الإستفادة منها، والمهمّ أن يعرف طريقة إستعمالها، وهذا هو الشيء الذي نراه في الموجودات المختلفة بوضوح، وكيف أنّ كلاًّ منها يستغلّ طاقته بصورة دقيقة في إدامة حياته، كيف يبني بيتاً، وكيف يتكاثر، وكيف يربّي أولاده ويخفيهم ويبعدهم عن متناول الأعداء، أو يعلمهم كيف يواجهون الأعداء؟ والبشر - أيضاً - لديهم هذه الهداية التكوينيّة، إلاّ أنّ الإنسان لمّا كان موجوداً يمتلك عقلا وشعوراً، فقد جعل الله سبحانه هدايته التكوينيّة مع هدايته التشريعيّة بواسطة الأنبياء متلازمة ومتزامنة، بحيث إنّه إذا لم ينحرف عن ذلك الطريق، فإنّه سيصل حتماً إلى مقصده. وبتعبير آخر فإنّ الإنسان نتيجة لإمتلاكه العقل والإرادة، فإنّ له واجبات ومسؤوليات، وبعد ذلك مناهج تكامليّة ليس للحيوانات مثلها، ولذلك فإنّه إضافة إلى الهداية التكوينيّة محتاج إلى الهداية التشريعيّة. وخلاصة القول: إنّ موسى (ع) يريد أن يفهم فرعون أنّ عالم الوجود هذا غير منحصر فيك، ولا في أرض مصر، ولا يختص بالحاضر أو الماضي، فإنّ لهذا العالم ماضياً ومستقبلا لم أكن ولم تكن فيه، وتلاحظ مسألتان أساسيتان في هذا العالم: تأمين الحاجات، ثمّ إستغلال الطاقات والقوى في طريق رقي الموجودات، فإنّها تستطيع جيداً أن تدلّك على ربّنا، وتعرفّك به، وكلّما أمعنت النظر في هذا المجال فستحصل على دلالات وبراهين كثيرة على عظمته وقدرته. فلمّا سمع فرعون هذا الجواب الجامع الجميل، ألقى سؤالا آخر (قال فما بال القرون الأُولى). وهناك بحث بين المفسّرين في مراد فرعون من هذه الجملة، فقد أظهروا وجهات نظر مختلفة! 1 - فقال بعضهم: إنّ موسى(ع) لمّا ذكر في آخر جملة من كلامه شمول العذاب الإلهي للمكذّبين بالتوحيد، فإنّ فرعون سأل: إذن فلماذا لم يبتل أُولئك الأقوام المشركين الماضين، بمثل هذا العذاب؟ 2 - وقال بعض: إنّ موسى لمّا قال: إنّ ربّ العالم هو ربّ الجميع، سأل فرعون: فلماذا كان الأسلاف من قومنا وكلّ الأقوام الماضية مشركين؟ فهذا يبيّن أنّ الشرك وعبادة الأصنام ليس عملا خاطئاً! 3 - وقال آخرون: لمّا كان معنى كلام موسى هو أنّ الجميع سينال نتيجة أعماله في النهاية، وسيُعاقب أُولئك الذين عصوا الأوامر الإلهيّة، فسأل فرعون: فما هو مصير الأقوام الماضية الذين هلكوا واندثروا؟ ﴿قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى﴾ ما حال الأمم الماضية كقوم نوح وعاد وثمود من السعادة والشقاوة تهب بالحجة فصرف الكلام عنها.