ثمّ أشار إلى خامس النعم وآخرها من سلسلة النعم الإلهيّة هذه، فقال: (كلوا وارعوا أنعامكم)، وهو إشارة إلى ثرواتكم ومنتوجاتكم الحيوانيّة، والتي تشكّل جانباً مهمّاً من المواد الغذائية والملابس ووسائل الحياة، هي أيضاً من بركات هذه الأرض وذلك الماء النازل من السّماء.
وفي النهاية، وبعد أن أشار إلى كلّ هذه النعم، قال: (إنّ في ذلك لآيات لاُولي النهى).
ممّا يستحقّ الإنتباه أنّ "النهى" جمع "نهية" وهي في الأصل مأخوذة من مادّة "نهي" مقابل الأمر، وتعني العقل الذي ينهى الإنسان عن القبائح والسيّئات، وهذه إشارة إلى أنّ كلّ تدبّر وتفكّر من أجل فهم أهميّة هذه الآيات ليس كافياً، بل إنّ العقل والفكر المسؤول هو الذي يستطيع أن يدرك ويطلع على هذه الحقيقة.
وبما أنّ هذه الآيات دلّلت على التوحيد بخلق الأرض ونعمها، فقد بيّنت مسألة المعاد بالإشارة إلى الأرض في آخر آية من هذه الآيات أيضاً فقالت: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارةً أُخرى) وإنّه لتعبير بليغ حقّاً، ومختصر أيضاً، عن ماضي البشر وحاضره ومستقبله، فكلّنا قد جئنا من التراب، وكلّنا نرجع إلى التراب، ومنه نبعث مرّةً أُخرى!
إنّ رجوعنا إلى التراب، أو بعثنا منه أمر واضح تماماً، لكن في كيفيّة بدايتنا من التراب تفسيران: الأوّل: إنّنا جميعاً من آدم وآدم من تراب.
والآخر: إنّنا أنفسنا قد خلقنا من التراب، لأنّ كلّ المواد الغذائية التي كوّنت أجسام آبائنا واُمّهاتنا قد أخذت من هذا التراب.
ثمّ إنّ هذا التعبير ينبّه كلّ العتاة المتمردّين، والمتّصفين بصفات فرعون، كي لا ينسوا من أين أتوا، وإلى أين يذهبون؟ فلماذا كلّ هذا الغرور والعصيان والطغيان من موجود كان بالأمس تراباً، وسيكون غداً تراباً أيضاً؟
ملاحظات
1 - كلمتي "المهد" و "المهاد" تعنيان المكان المهيّأ للجلوس والمنام والإستراحة، وفي الأصل تطلق كلمة المهد على المكان الذي ينام فيه الطفل، فكأنّ الإنسان طفل وضع في مهد الأرض، وقد توفّرت في هذا المهد كلّ وسائل الحياة.
2 - كلمة "أزواجاً" التي أخذت من مادّة "زوج" يمكن أن تكون إشارة إلى أصناف وأنواع النباتات، كما يمكن أن تكون إشارة خفيّة إلى مسألة الزوجيّة في عالم النباتات، والتي سنتحدّث عنها في ذيل آية مناسبة إن شاء الله تعالى.
3 - ورد عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حديث في اُصول الكافي في تفسير (اُولو النهى)، جاء فيه: "إنّ خياركم اُولو النهى" قيل: يارسول الله، ومن اُولو النهى؟ قال: "هم اُولو الأخلاق الحسنة، والأحلام الرزينة، وصلة الأرحام، والبررة بالاُمّهات والآباء، والمتعاهدين للفقراء والجيران واليتامى، ويطعمون الطعام، ويفشون السلام في العالم، ويصلّون والناس نيام غافلون"(2).
وفي حديث آخر نقل عن أمير المؤمنين (ع)، أنّ رجلا سأله: يابن عمّ خير خلق الله، ما معنى السجدة الأُولى؟ فقال: "تأويله: اللّهمّ إنّك منها خلقتني - يعني من الأرض - ورفُع رأسك ومنها أخرجتنا، والسجدة الثّانية وإليها تعيدنا، ورفع رأسك من الثّانية ومنها تخرجنا تارةً أُخرى"(3).
﴿كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ المذكور ﴿لَآيَاتٍ﴾ لعبرا ﴿لِّأُوْلِي النُّهَى﴾ لذوي العقول جمع نهيه سمي بها العقل لنهيه عن القبيح.