بعد ذكر نوعين من تذرّعات المخالفين، يتطرّق القرآن إلى ذكر أربعة أنواع أُخرى منها، فيقول: (بل قالوا أضغاث أحلام)(4) وهم يعتقدون أنّها حقيقة.
وقد يغيّرون كلامهم هذا أحياناً فيقولون: (بل إفتراه) ونسبه إلى الله.
ويقولون أحياناً: (بل هو شاعر)، وهذه الآيات مجموعة من خيالاته الشعرية.
وفي المرحلة الرّابعة يقولون: إنّا نتجاوز عن كلّ ذلك فإذا كان مرسلا من الله حقّاً (فليأتنا بآية كما أُرسل الأوّلون).
إنّ التحقيق في هذه الإدّعاءات المتضادّة المتناقضة في حقّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)سيوضّح أنّها بنفسها دليل على أنّهم لم يكونوا طلاّب حقّ، بل كان هدفهم خلق الأعذار، وإخراج خصمهم من الحلبة بأيّة قيمة وثمن، وبأي صورة كانت.
فهم يعتبرونه ساحراً تارةً، وأُخرى شاعراً، وثالثة مفترياً، وأُخرى إنساناً يختلط الأمر عليه ويهجر - والعياذ بالله - فهو يحسب مناماته المضطربة وحياً! ويقولون حيناً: لماذا أنت بشر؟ ويتذرّعون أحياناً بطلب معجزة جديدة مع كلّ تلك المعاجز.
إذا لم يكن لدينا دليل على بطلان كلامهم إلاّ هذا الإضطراب والتمزّق، فإنّه كاف لوحده، ولكنّنا سنرى في الآيات التالية أنّ القرآن سيجيبهم جواباً حاسماً من طرق أُخرى أيضاً.
ملاحظة
هل القرآن محدث؟
لقد أورد جمع من المفسّرين في ذيل الآيات - لوجود كلمة (محدث) في الآية الثّانية من الآيات محلّ البحث - بحوثاً جمّة حول كون كلام الله حادثاً أم قديماً؟ وهي نفس المسألة التي اُثيرت في زمن خلفاء بني العبّاس وصارت مثاراً للجدل لسنين طويلة، وكانت قد لفتت إنتباه وأفكار جماعة من العلماء.
إلاّ أنّنا نعلم اليوم جيداً أنّ معظم هذا الموضوع كان يراد منه الإشغال السياسي ليهتمّ به علماء الإسلام، وينصرفوا عن المسائل الضروريّة والأساسيّة التي تتعلّق بشؤون الحكومة وكيفيّة حياة الناس، وحقائق الإسلام الأصيلة.
واليوم اتّضح لنا تماماً أنّ المراد من كلام الله محتواه ومضمونه، وهو قديم قطعاً، أي إنّه كان دائماً في علم الله، وإنّ علم الله الواسع كان محيطاً بالقرآن على الدوام.
وإذا كان المراد منه هذه الألفاظ والكلمات، وهذا الوحي الذي نزل على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا شكّ في أنّه حادث.
أي عاقل يقول: إنّ ألفاظ القرآن وكلماته أزليّة؟ أو أنّ نزول الوحي على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن من بداية أمر الرسالة؟ وبناءً على هذا فأنتم تلاحظون بأنّ المسألة واضحة وضوح الشمس في جميع أبعادها.
وبتعبير آخر فإنّ القرآن يحتوي على ألفاظ ومعان، فألفاظه حادثة قطعاً، ومعانيه قديمة قطعاً، وعلى هذا فلا مجال للبحث والمناقشة.
ثمّ إنّ أيّ مشكلة علميّة وإجتماعية وسياسيّة وأخلاقية في المجتمع الإسلامي يحلّها هذا البحث آنذاك؟ ولماذا خدع بعض العلماء السابقين بأساليب الحكّام المكَرَةِ المتآمرين الخدّاعة؟
ولهذا نرى أنّ بعض أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) بعد بيان هذه المسألة، قد حذّروا هؤلاء من هذه البحوث، ودعوهم إلى الإبتعاد والإمتناع عنها(5).
﴿بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ﴾ تخاليط أباطيل رآها في النوم ﴿بَلِ افْتَرَاهُ﴾ اختلقه من نفسه ﴿بَلْ هُوَ شَاعِرٌ﴾ فما أتى به شعر ﴿فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ﴾ كالناقة والعصا.