أمّا آخر آية من الآيات مورد البحث، فتجيب - مرّة أُخرى - في جملة قصيرة عميقة المعنى عن أكثر إشكالات المشركين، فتقول: (ولقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون) فإنّ كلّ من يتدبّر آيات هذا الكتاب الذي هو أساس التذكّر وحياة القلب، وحركة الفكر، وطهارة المجتمع، سيعلم جيداً أنّه معجزة واضحة وخالدة، ومع وجود هذه المعجزة البيّنة التي تظهر فيها آثار الإعجاز من جهات مختلفة .. من جهة الجاذبيّة الخارقة، ومن جهة المحتوى، الأحكام والقوانين، العقائد والمعارف، وو.. فهل لا زلتم بإنتظار معجزة أُخرى؟ أي معجزة تقدر أن تثبت أحقّية دعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحسن من هذه المعجزة؟
وفضلا عمّا مرّ، فإنّ آيات هذا الكتاب تصرخ بأنّها ليست سحراً، بل هي حقائق وتعليمات غنيّة المحتوى وجذّابة، أتقولون بعد ذلك أنّها سحر؟
هل يمكن أن توصف هذه الآيات بأنّها أضغاث أحلام؟ فأين هي الأحلام المضطربة التي لا معنى لها من هذا الكلام المنسجم الموزون؟ وأين الثرى من الثريّا؟
هل يمكن أن تعتبر تلك الآيات كذباً وإفتراءً مع أنّ آثار الصدق بادية في كلّ مكان منها؟
أم أنّ من جاء بها كان شاعراً، في حين أنّ الشعر يدور حول محور الخيال، وآيات هذا الكتاب تدور كلّها حول محور الواقعيّات والحقائق؟
وبكلمة قصيرة، إنّ الدقّة والبحث في هذا الكتاب يثبت أنّ هذه الإدّعاءات متضادّة متناقضة غير منسجمة، وهي كلام المغرضين الجهلة.
وإختلف المفسّرون في معنى كلمة "ذكركم" في الآية آنفة الذكر، وذكروا لها تفاسير مختلفة.
فذهب بعضهم: إنّ المراد هو أنّ آيات القرآن منبع الوعي والتذكّر بين أفراد المجتمع، كما يقول القرآن في موضع آخر: (فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد).(3)
وقال آخرون: إنّ المراد أنّ هذا القرآن سيرفع إسمكم ومكانتكم في الدنيا، أي إنّه أساس عزّكم وشرفكم أيّها المؤمنون والمسلمون، أو أنتم أيّها العرب الذين نزل القرآن بلسانكم، وإذا اُخذ منكم فسوف لا يكون لكم اسم ولا رسم فيالعالم.
والبعض الآخر قالوا: إنّ المقصود هو أنّه قد ذكر في هذا القرآن كلّ ما تحتاجون إليه في اُمور الدين والدنيا، أو في مجال مكارم الأخلاق.
وبالرغم من أنّ هذه التفاسير لا ينافي بعضها بعضاً، ويمكن أن تكون مجتمعة في تعبير "ذكركم"، إلاّ أنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأظهر.
فإن قيل: كيف يكون هذا القرآن أساس الوعي واليقظة، في حين أنّ كثيراً من المشركين قد سمعوه فلم ينتبهوا؟
قلنا: إنّ كون القرآن موقظاً ومنبّهاً لا يعني إجباره الناس على هذا الوعي، بل إنّ الوعي مشروط بأن يريد الإنسان ويصمّم، وأن يفتح نوافذ قلبه أمام القرآن.
﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ﴾ يا قريش ﴿كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ شرفكم أو ما يوجب حسن الذكر لكم إن تمسكتم به ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ فتؤمنون به.