لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ثمّ يذكر قانون الموت العامّ الذي يصيب كلّ النفوس بدون إستثناء فيقول: (كلّ نفس ذائقة الموت). ويجب أن نذكّر بأنّ لفظة (النفس) قد استعملت في القرآن بمعان مختلفة، فأوّل معنى للنفس هو الذات، وهذا المعنى واسع يطلق حتّى على ذات الله المقدّسة، كما نقرأ: (كتب على نفسه الرحمة)(1). ثمّ إستعملت هذه الكلمة في الإنسان، أي مجموع جسمه وروحه، مثل: (من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنّما قتل الناس جميعاً)(2). وإستعملت أحياناً في خصوص روح الإنسان كما في (أخرجوا أنفسكم)(3). ومن الواضح أنّ المراد من النفس في الآيات التي نبحثها هو المعنى الثّاني، وبناءً على هذا فإنّ المراد هو بيان قانون الموت العام في حقّ البشر، وبذلك لا يبقى مجال للإشكال على الآية بأنّ التعبير بالنفس يشمل الله أو الملائكة أيضاً فكيف نخصّص الآية ونخرج الله والملائكة منها؟(4). وبعد ذكر قانون الموت الكلّي يطرح هذا السؤال، وهو: ما هو الهدف من هذه الحياة الزائلة؟ وأي فائدة منها؟ فيقول القرآن حول هذا الكلام: (ونبلوكم بالشرّ والخير فتنة وإلينا ترجعون)أي إنّ مكانكم الأصلي ليس هو هذه الدنيا، بل هو مكان آخر، وإنّما تأتون هنا لتؤدّوا الإختبار و "الإمتحان"، وبعد إكتسابكم التكامل اللازم سترجعون إلى مكانكمالأصلي وهو الدار الآخرة. وممّا يسترعي النظر أنّ "الشرّ" مقدّم على "الخير" من بين المواد الإمتحانية، وينبغي أن يكون كذلك، لأنّ الإمتحان الإلهي وإن كان تارةً بالنعمة وأُخرى بالبلاء، إلاّ أنّ من المسلّم أنّ الإمتحان بالبلاء أشدّ وأصعب. وأمّا "الشرّ" فإنّه لا يعني مطلق الشرّ، لأنّ الفرض أنّ هذا الشرّ عبارة عن وسيلة للإختبار والتكامل، وبناءً على هذا فإنّ المراد هو الشرّ النسبي، وأساساً لا يوجد شرّ مطلق في مجموع عالم الوجود بالنظرة التوحيديّة الصحيحة! ولذلك نقرأ في حديث أنّ أمير المؤمنين علياً (ع) مرض يوماً فجاء جمع من أصحابه لعيادته، فقالوا: كيف نجدك يا أمير المؤمنين؟ قال: "بشرّ"! قالوا: ما هذا كلام مثلك؟! قال: "إنّ الله تعالى يقول: ونبلوكم بالشرّ والخير فتنة، فالخير الصحّة والغنى، والشرّ المرض والفقر". ويبقى هنا سؤال مهمّ، وهو: لماذا يختبر الله عباده؟ وماذا يعني الإختبار من قِبل الله؟ وقد ذكرنا جواب هذا السؤال في ذيل الآية (155) من سورة البقرة، وقلنا: إنّ الإمتحان من الله تعالى لعباده يعني تربيتهم. طالعوا التفصيل الكامل لهذا الموضوع هناك. الآيات 36 - 40 ﴿وَإِذَا رَءَاكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَـذَا الَّذِى يَذْكُرُ ءَالِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَـنِ هُمْ كَـفِرُونَ36 خُلِقَ الإِنسَـنُ مِنْ عَجَل سَأُوْرِيكُمْ ءَايَتِى فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ37 وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ38 لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ39 بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ40﴾ التّفسير خلق الإنسان من عَجَل! نواجه في هذه الآيات مرّة أُخرى، بحوثاً أُخرى حول موقف المشركين من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث يتّضح نمط تفكيرهم المنحرف في المسائل الاُصولية، فتقول أوّلا: (وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلاّ هزواً) فهؤلاء لا عمل لهم إلاّ السخرية والإستهزاء، ويشيرون إليك بعدم إكتراث ويقولون: (أهذا الذي يذكر آلهتكم(1) وهم بذكر الرحمن هم كافرون). ممّا يثير العجب هو إنّه لو إزدرى أحدٌ هذه الأصنام الخشبية والحجرية (وما هو بمزدر لها، بل يُفصح عن حقيقتها) فيقول: إنّ هذه موجودات لا روح فيها ولا شعور ولا قيمة لها، لتعجبوا منه، أمّا إذا جحد أحدهم ربّه الرحمن الرحيم الذي عمّت آثار رحمته وعظمته الأرض والسّماء وما من شيء إلاّ وفيه دليل على عظمته ورحمته، لما أثار إعجابهم!! نعم، إنّ الإنسان إذا إعتاد أمراً وتطبّع عليه وتعصّب له فإنّه سيتقدّس في نظره وإن كان أسوء الاُمور، وإذا عادى شيئاً فسيبدو سيّئاً في نظره تدريجيّاً وإن كان أجمل الاُمور وأحبّها. ثمّ تشير إلى أمر آخر من الاُمور القبيحة لدى هذا الإنسان المتحلّل، فتقول: (خلق الإنسان من عجل). وبالرغم من إختلاف المفسّرين في تفسير كلمتي (إنسان) و (عجل)، ولكن من المعلوم أنّ المراد من الإنسان هنا نوع الإنسان - طبعاً الإنسان المتحلّل والخارج عن هداية القادة الإلهيين وحكومتهم - والمراد من "عجل" هي العجلة والتعجيل، كما تشهد الآيات التالية على هذا المعنى، وكما نقرأ في مكان آخر من القرآن: (وكان الإنسان عجولا)(2). إنّ تعبير (خلق الإنسان من عجل) في الحقيقة نوع من التأكيد، أي إنّ الإنسان عجول إلى درجة كأنّه خلق من العجلة، وتشكّلت أنسجته ووجوده منها! وفي الواقع، فإنّ كثيراً من البشر العاديين هم على هذه الشاكلة، فهم عجولون في الخير وفي الشرّ، وحتّى حين يقال لهم: إذا ارتكبتم المعاصي وكفرتم سيأخذكم العذاب الإلهي، فإنّهم يقولون: فلماذا لا يأتي هذا العذاب أسرع؟! وتضيف الآية في النهاية: (سأريكم آياتي فلا تستعجلون). التعبير ب- (آياتي) هنا يمكن أن يكون إشارة إلى آيات العذاب وعلاماته والبلاء الذي كان يهدّد به النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مخالفيه، ولكن هؤلاء الحمقى كانوا يقولون مراراً: فأين تلك الإبتلاءات والمصائب التي تخوّفنا بها؟ فالقرآن الكريم يقول: لا تعجلوا فلا يمضي زمن طويل حتّى تحيط بكم. وقد يكون إشارة إلى المعجزات التي تؤيّد صدق نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، أي إنّكم لو صبرتم قليلا فستظهر لكم معجزات كافية. ولا منافاة بين هذين التّفسيرين، لأنّ المشركين كانوا عجولين في كليهما، وقد أراهم الله كليهما، وإن كان التّفسير الأوّل يبدو هو الأقرب والأنسب مع الآيات التالية. ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ تقرير للإنكار ﴿وَنَبْلُوكُم﴾ نختبركم ﴿بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ﴾ بالمحن والمنح ﴿فِتْنَةً﴾ ابتلاء مصدر من غير لفظه ﴿وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ فنجازيكم.