لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير عدّة حاجات مهمّة: كما تقدّم في تفسير الآية السابقة أنّ هاتين الآيتين تتعلّقان بالأشخاص الّذين إستوحشوا من تعبير الآية السابقة في أنّ الله تعالى مطّلع على نيّاتهم وسيحاسبهم ويجازيهم عليها فقالوا: لا أحد منّا يصفو قلبه عن الوسوسة والخاطرات القلبيّة. فالآية الحاضرة تقول: (لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها). (الوسع) لغة تعني القدرة والإستيعاب، وعليه فإنّ الآية تؤيّد الحقيقة المنطقيّة القائلة أنّ التكاليف والفرائض الإلهيّة لا تتجاوز طاقة الأفراد وميزان تحملّهم إطلاقاً، لذلك يمكن القول بأنّ كلّ الأحكام يمكن تقييدها وتفسيرها بهذه الآية حيث تتحدّد في إطار قدرة الإنسان، ومن البديهي أنّ المشرّع الحكيم والعادل لا يمكن أن يضع قانوناً على نحو آخر. كما أنّ الآية تؤكّد أنّ الأحكام الشرعيّة لا تنفصل أبداً عن أحكام العقل والحكمة، بل هي متواكبة معها في كلّ المراحل. ثمّ تضيف الآية (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت). أجل فإنّ كلّ شخص يحصد ما جنته يداه حسناً كان أم سيئاً، وسيواجه في هذا العالم أو في العالم الآخر نتائج وعواقب هذه الأعمال، فالآية تنبّه الناس إلى مسؤولياتهم وعواقب أعمالهم، وتفنّد الأساطير التي تبريء بعض الناس من عواقب أعمالهم، أو تجعلهم مسؤولين عن أعمال الآخرين دون دليل. وتجدر الإشارة إلى أنّ الآية تطلق على الأعمال الصالحة اسم "الكسب" وعلى الأعمال السيّئة اسم "الإكتساب". ولعلّ السبب هو أنّ "الكسب" يستعمل بالنسبة إلى الأُمور التي يحقّقها المرء برغبة داخلية وبلا تكليف وهي تناسب فطرته، بينما "الإكتساب" هو النقطة المقابلة للكسب، أي الأعمال التي تنافي الفطرة وطبيعة الإنسان. يُفهم من هذا أنّ الأعمال الصالحة مطابقة لمسيرة الفطرة وطبيعة الإنسان، بينما أعمال الشرّ تخالف الفطرة والطبيعة. أمّا الراغب الإصفهاني في "مفرداته" فيرى رأياً غير هذا وجدير بالملاحظة يقول: الكسب ما يتحرّاه الإنسان ممّا فيه اجتلاب نفع وتحصيل حظّ ككسب المال، ويقال فيما أخذه لنفسه ولغيره (كأعمال الخير التي لاتقتصر فائدتها على الفاعل وحده، بل قد تعمَّ الأقارب وغيرهم) في حين أنّ الإكتساب لا يقال إلاَّ فيما تعود نتائجه على الفاعل نفسه، وهو الذنب. هذه الإختلافات في المعنى تصلح طبعاً عندما تستعمل الواحدة في قبال الاُخرى. (ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا). لمّا كان المؤمنون يعرفون أنّ مصيرهم يتحدّد بما كسبت أيديهم من أعمال صالحة أو سيئة بموجب قانون "لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت" لذلك يتضرّعون ويخاطبون الله بلفظ "الرب" الذي يوحي بمعاني اللطف في النشأة والتربية قائلين: إذا كنّا قد أذنبنا بسبب النسيان أو الخطأ، فاغفر لنا ذنوبنا برحمتك الواسعة وجنّبنا العقاب. العقاب على النسيان والخطأ: لماذا الدعاء لأن يغفر الله الذنوب المرتكبة نسياناً أو خطأً؟ فهل الله يعاقب على مثل هذه الذنوب؟ في الجواب لابدّ من القول بأنّ النسيان يكون أحياناً من باب التماهل والتساهل من جانب الإنسان نفسه. بديهيّ أنّ هذا النوع من النسيان لا يضع المسؤولية عن الإنسان، كما جاء في القرآن. (فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا)(1) وعليه فإنّ النسيان الناشيء عن التساهل يوجب العقاب. ثمّ لابدّ من ملاحظة أنّ هناك فرقاً بين النسيان والخطأ. فالخطأ يقال عادة في الاُمور التي تقع لغفلة من الإنسان وعدم انتباه منه، كأن يطلق رصاصة ليصيد صيداً فتصيب رصاصته إنساناً فتجرحه. أمّا النسيان فهو أن يتّجه الإنسان للقيام بعمل ما ولكنّه ينسى كيف يقوم بذلك، كأن يعاقب المرء إنساناً بريئاً ظنّاً منه أنّه المذنب، لنسيانه مميّزات المذنب الحقيقي. (ربّنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا). "الإصر" عقد الشيء وحبسه. وتطلق على الحمل الثقيل الذي يمنع المرء من الحركة. وكذلك العهد المؤكّد الذي يقيّد الإنسان. ولهذا تطلق هذه الكلمة على العقاب أيضاً. وفي هذا المقطع من الآية يطلب المؤمنون من الله تعالى طلبين: الأوّل أن يرفع عنهم الفروض الثقيلة التي قد تمنع الإنسان من إطاعة الله، وهذا هو ما ورد على لسان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)بشأن التعاليم الإسلامية، إذ قال "بعثت بالشريعة السهلة السمحة"(2). هنا قد يسأل سائل: إذا كانت السهولة والسماحة في الدين جيّدة، فلماذا لم يكن للأقوام السابقة مثلها؟ في الجواب نقول: تفيد آيات في القرآن أنّ التكاليف الشاقّة لم تكن موجودة في أصل شرائع الأديان السابقة، بل فرضت كعقوبات على أثر عصيان تلك الأقوام وعدم إطاعتها، كحرمان بني إسرائيل من أكل بعض اللحوم المحلّلة بسبب عصيانهم المتكرّر(3). وفي الطلب الثاني يريدون منه أن يعفيهم من الإمتحانات الصعبة والعقوبات التي لا تطاق (ولاتحملّنا ما لا طاقة لنا به). ونرى في الفقرة السابقة صيغة (لاتحمل)، وهنا نرى عبارة (لا تحمّل)، فالأُولى تستعمل عادة في الاُمور الصعبة، والثانية فيما لا يطاق. (فاعفُ عنّا واغفر لنا وارحمنا). "عفا" بمعنى أزال آثار الشيء، وأكثر استعمالها مع الذنب بمعنى محو آثار الإثم، وتشمل الآثار الطبيعية والآثار الجزائية والعقوبات. أمَّا "الغفران" فتعني أن يصون الله العبد من أن يمسّه العذاب عقوبة على ذنبه. وعليه، فإنّ استعمال الكلمتين يفيد أنّ المؤمنين طلبوا من الله أن يزيل الآثار التكوينية والطبيعية لزللهم عن أرواحهم ونفوسهم، لكي لا تصيبهم عواقبها السيّئة. كما أنّهم طلبوا منه أن لا يقعوا تحت طائلة عقابها. وفي المرحلة الثالثة يطلبون "رحمته الواسعة" التي تشمل كلّ شيء. (أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين). وفي آخر دعواهم يخاطبون الله على أنّه مولاهم الذي يتعهّدهم بالرعاية والتربية ويطلبون منه أنّ يمنحهم الفوز والإنتصار على الأعداء. في هاتين الآيتين خلاصة لسورة البقرة كلّها، وهما تهدياننا إلى روح التسليم أمام ربّ العالمين، وتشيران إلى أن المؤمنين إذا أرادوا من الله أن يغفر لهم زلاَّتهم وأن ينصرهم على الأعداء كافّة، فلابدّ لهم أن ينفذوا برنامج "سمعنا وأطعنا" أن يقولوا: إنَّنا سمعنا دعوات الداعين وقبلناها بكلّ جوارحنا وإنّنا متّبعوها، ولن ندخّر وسعاً في حثّ السير على هذا السبيل. وعندئذ لهم أن يطلبوا الإنتصار على الموانع والأعداء. إنّ تكرار كلمة "ربّ" أي الذي يلطف بعباده ويربّيهم يكمل هذه الحقيقة. ولهذا حثَّنا أئمة الدين في أحاديثهم على قراءة هاتين الآيتين، وبيّنوا ما فيهما من أبواب الثواب. فإذا تناغم اللسان والقلب في تلاوتهما ولم تكن التلاوة مجرّد ألفاظ تجري على اللسان، تغدو حينئذ برنامجاً حياتياً، فإنّ تلاوتهما تربط بين القلب وخالق الكون، وتضفي الصفاء على الروح وتكون عاملاً على التحرّك والنشاط. يستفاد جيّداً من هذه الآية أنّ (التكليف بما لايطاق) لا يوجد في الشريعة المقدّسة، لا في الإسلام ولا في الأديان الاُخرى، والأصل هو حريّة الإنسان وإرادته لأنّ الآية تقول: أنّ كلّ إنسان يلاقي جزاء أعماله الحسنة والسيئة، فما عمله من حسنات فسيعود إليه، وما ارتكبه من سيئات فعليه، ومن هذا المنطلق يكون طلب العفو والمغفرة والصفح. وهذا المعنى يتطابق تماماً مع منطق العقل ومسألة الحسن والقبح، لأنّ الله تعالى حكيم ولا يمكن أن يكلّف العباد بما لا طاقة لهم به، وهذا بنفسه دليل على نفي مسألة الجبر، فكيف يحتمل أنّ الله تعالى يجبر العباد على إرتكاب الذنب والإثم وفي نفس الوقت ينهاهم عنه؟! ولكنّ التكاليف الشاقّة والصعبة ليست بالأمر المحال كما قرأنا عن تكاليف بني إسرائيل الشاقّة، وهذه التكاليف أيضاً ناشئة من أعمالهم وعبارة عن عقوبة لما ارتكبوه من آثام. اّمين يارب العالمين نهاية سورة البقرة ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا﴾ فيما افترض عليها ﴿إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ ما تتسع فيه طاقتها ولا تضيق عنه أي ما دونها ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ من خير ﴿وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ من شر لا يثاب بطاعتها ولا يؤاخذ بذنبها وخص الكسب بالخير والاكتساب بالشر لأن في الاكتساب اعتمالا والشر تشتهيه النفس الأمارة فهي أعمل في تحصيله بخلاف الخير وفيه إشعار بأن أدنى خير ينفعها والشر القليل غير ضار بل الذي يضرها كثيرة لأن كثرة المباني تدل على كثرة المعاني وفيه إشارة إلى أن الصغاير مكفرة بترك الكبائر ﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ إن تعرضنا لما يؤدي بنا إلى نسيان أو خطأ من تفريط أو إغفال أو إن تركنا أو أذنبنا أو يكون الدعاء به لاستدامة فضله ﴿رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا﴾ ثقلا أي تكليفا شاقا ﴿كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا﴾ كتكليف بني إسرائيل بقتلهم أنفسهم وقرض ما أصابه البول من أبدانهم بالمقاريض ﴿رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا﴾ الأولى بنا ﴿فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ فمن حق المولى أن ينصر عبيده على أعدائهم.