لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ولذلك فإنّ الآية التالية تقول من باب التأكيد المشدّد: (إنّ في هذا لبلاغاً لقوم عابدين). لقد إعتبر بعض المفسّرين (هذا) إشارة إلى كلّ الوعود والتهديدات التي جاءت في هذه السورة، أو في كلّ القرآن، ويدخل موضوع بحثنا في هذا المفهوم الكلّي أيضاً. إلاّ أنّ ظاهر الآية هو أنّ (هذا) إشارة إلى الوعد الذي اُعطي للعباد الصالحين في الآية السابقة في شأن الحكومة في الأرض. بحوث 1 - روايات حول ثورة المهدي (ع) لقد فسّرت هذه الآية في بعض الرّوايات بأصحاب المهدي (ع)، كما نرى رواية في تفسير مجمع البيان عن الإمام الباقر (ع) في ذيل هذه الآية: "هم أصحاب المهدي في آخر الزمان". وجاء في تفسير القمّي في ذيل هذه الآية: (إنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون) قال: "القائم وأصحابه". لا يخفى أنّ معنى هذه الرّوايات ليس الحصر، بل هو بيان مصداق عال وواضح، وقلنا مراراً: إنّ هذه التفاسير لا تحدّ من عمومية مفهوم الآية مطلقاً، وبناءً على هذا ففي كلّ زمان، وفي أي مكان ينهض فيه عباد الله الصالحون بوجه الظلم والفساد فإنّهم سينتصرون عاقبة الأمر، وسيكونون ورثة الأرض وحاكميها. وإضافة إلى الرّوايات الواردة آنفاً في تفسير هذه الآية، فقد رويت روايات كثيرة جدّاً (بلغت حدّ التواتر) عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، وعن طريق السنّة والشيعة، في شأن المهدي (ع)، وكلّها تدلّ على أنّ حكم الأرض سيقع في أيدي الصالحين، وإنّ رجلا من أهل بيت النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقوم فيملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت ظلماً وجوراً. ومن جملة الرّوايات الحديث المعروف عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والذي نقلته أكثر المصادر الإسلامية: "لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم، لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يبعث رجلا (صالحاً) من أهل بيتي يملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت ظلماً وجوراً". وقد ورد هذا الحديث بهذا التعبير مع إختلاف يسير في كثير من كتب الشيعة وأهل السنّة(2). وقد نوّهنا في ذيل الآية (33) من سورة التوبة: إنّ جماعة من كبار علماء الإسلام، من أهل السنّة والشيعة قديماً وحديثاً قد صرّحوا في كتبهم بأنّ الأحاديث الواردة في قيام المهدي (ع) بلغت حدّ التواتر، وليس لأيٍّ إنكارها بأي وجه، حتّى أنّ كتباً قد أُلّفت في هذا الصدد بصورة خاصة تستطيع أن تطّلع على تفصيلها في ذيل الآية (33) من سورة التوبة. 2 - بشارة حكومة الصالحين في مزامير داود ممّا يلفت النظر أنّه يلاحظ في كتاب مزامير داود - والذي هو اليوم جزء من كتب العهد القديم - يلاحظ التعبير الذي ورد في الآية آنفة الذكر - نفسه أو ما يشبهه في عدّة مواضع، وهذا يوحي بأنّه مع كلّ التحريفات التي وقعت في هذه الكتب، فقد بقي هذا القسم مصوناً من تلاعب الأيدي به. 1 - فنقرأ في المزمور 37 / جملة 9:... " لأنّ عاملي الشرّ يقطعون والذين ينتظرون الربّ هم يرثون الأرض، بعد قليل لا يكون الشرّير ... " 2 - وفي مكان آخر في نفس هذا المزمور / جملة 11: "أمّا الودعاء فيرثون الأرض ويتلذّذون في كثرة السلامة". 3 - وكذلك في نفس المزمور 37 / جملة 27، يلاحظ هذا الموضوع بتعبير آخر: "لأنّ المتبركين بالله سيرثون الأرض، أمّا الملعونون فسينقطع أثرهم ... " 4 - وجاء في هذا المزمور / الجملة 29: "إنّ الصالحين سيرثون الأرض وسيسكنون فيها إلى الأبد". 5 - وجاء في الجملة 18 من نفس المزمور أعلاه: "إنّ الله يعلم أيّام الصالحين، وسيكون ميراثهم أبديّاً"(3). نلاحظ نلاحظ هنا بصورة جيدة أنّ عنوان "الصالحين" الذي جاء في القرآن، ورد بنفس هذا التعبير في مزامير داود، إضافةً إلى ورود تعابير أُخرى كالصدّيقين والمتبركين والمتوكّلين والمتواضعين أو ما هو قريب من هذه المعاني في جمل أُخرى. إنّ هذه التعبيرات دليل على عموم حكومة الصالحين، وتتطابق تماماً مع أحاديث قيام المهدي (ع). 3 - حكم الصالحين قانون تكويني بالرغم من أنّه يصعب على اُولئك الذين شهدوا وعاشوا في ظلّ حكم الطواغيت الظلمة والعتاة المتجّبرين، قبول هذه الحقيقة بسهولة، وهي أنّ كلّ هذه الحكومات على خلاف نواميس الخلقة، وقوانين عالم الخلقة، وأنّ ما ينسجم معها هو حكم الصالحين المؤمنين، إلاّ أنّ التحليلات الفلسفيّة تنتهي إلى أنّ هذه حقيقة واقعيّة، وبناءً على هذا فإنّ جملة (إنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون) قبل أن تكون وعداً إلهيّاً، فإنّها تعتبر قانوناً تكوينيّاً. توضيح ذلك: إنّ عالم الوجود - على حدّ علمنا - مجموعة من الأنظمة والقوانين تحكم جميع أرجاء هذا العالم وهي بذاتها دليل على وحدة هذا النظام وإرتباط أجزائه. وجود النظم والقانون في عالم الوجود والخلق تعتبر من أهمّ مسائل هذا العالم، فمثلا: إذا وجدنا مئات العقول الالكترونية القوّية قد انضمّ بعضها إلى بعض لإعداد الرحلات الفضائية لروّاد الفضاء بالمحاسبات الدقيقة، وكانت حساباتها صحيحة تماماً حيث تنزل المركبة الفضائية في المكان المقترح لها على سطح القمر، مع أنّ كوكبي القمر والأرض يتحرّكان كلاهما بسرعة، فينبغي أن نعرف أنّ هذا الحدث العظيم مدين لنظام المجموعة الشمسية وأقمارها الدقيق، لأنّهم إذا إنحرفوا عن مسيرهم الدقيق المنتظم بمقدار 1% من الثّانية، لما كان معلوماً مصير رجال الفضاء! وننتقل من العالم الكبير إلى عالم أصغر وأصغر وصغير جدّاً، فهنا - وخاصّةً في الكائنات الحيّة - سيتّخذ النظام معنى أكثر حيويّة، ولا محل للفوضى فيه مطلقاً، فإنّ إختلال النظام في خلية واحدة في دماغ الإنسان كاف لأن يبدّل نظم حياته إلى إضطراب مؤسف. وجاء في أخبار الصحف: إنّ شاباً جامعياً قد نسي كل ماضيه تقريباً على أثر هزّة دماغية شديدة في حادثة سير! مع أنّه كان سالماً من حيث الجهات الاُخرى، فلم يعرف أخاه ولا اُخته كما كان يتضايق عندما تحتضنه اُمّه وتقبّله، ويتساءل: ماذا تفعل معي هذه المرأة الأجنبية؟ فيذهبون به إلى مسقط رأسه، وإلى الغرفة التي نشأ فيها، فكان ينظر إلى أعماله اليدوية، ولوحاته الفنية، إلاّ أنّه يقول: إنّي أرى هذه الغرفة واللوحات لأوّل مرّة! ربّما كان يعتقد أنّه قد قدم من كوكب آخر، فكلّ شيء جديد بالنسبة له. ربّما توقّفت بعض خلاياه من بين عدّة مليارات من الخلايا المخيّة، وهي التي تربط ماضيه بحاضره، ولكن أي أثر مرعب تركه هذا الإختلال الجزئي؟! هل يستطيع المجتمع الإنساني بإنتخابه اللانظام والفوضى والظلم والجور والشقاء أن يعزل نفسه عن تيار نهر عالم الخلقة العظيم، والذي يسير كلّه ببرنامج منظّم؟ ألا تجعلنا مشاهدة الوضع العام للعالم نفكّر في أنّ البشر أيضاً يجب أن يخضعوا لنظام عالم الوجود، شاؤوا أم أبوا، ويقبلوا القوانين المنتظمة العادلة، ويعودوا إلى مسيرهم الأصيل ويكونوا منسجمين وهذا النظام. إذا ألقينا نظرة على بناء أجهزة بدن الإنسان المختلفة المعقّدة، إبتداءً من القلب والمخ إلى العين والاُذن واللسان، إلى بصيلة الشعر، سنراها جميعاً خاضعة لقوانين وأنظمة وحسابات دقيقة، وإذا كان الأمر كذلك في البدن، فكيف تقدر البشرية أن تستقرّ بدون اتّباع ضوابط ومقرّرات ونظام صحيح وعادل؟ إنّنا نريد بقاء البشرية، ونسعى لذلك، غاية ما في الأمر أنّ مستوى وعي مجتمعنا لم يصل إلى ذلك الحدّ بحيث نعلم أنّ إستمرارنا في هذا الطريق الحالي سينتهي إلى فنائنا، ولكن سنثوب إلى عقولنا تدريجيّاً، ويحصل لنا هذا الإدراك والرشد الفكري. نحن نريد منافعنا ومصالحنا، ولكنّنا إلى الآن لا نعلم أنّ إستمرار الوضع الحالي سيدمّر مصالحنا ويجعلها هباءً منثوراً، ولكنّا نضع نصب أعيننا الأرقام والإحصائيات الحيّة الناطقة عن سباق التسلّح مثلا، وسنرى أنّ نصف القوى الفكرية والجسمية للمجتمع البشري، ونصف الثروات ورؤوس الأموال الضخمة تهدر في هذا المجال! ولا تهدر فحسب، بل إنّها تسعى إلى فناء وإتلاف النصف الثّاني! وتزامناً مع إرتفاع سطح وعينا سنرى بوضوح أنّنا يجب أن نعود إلى نظام عالم الوجود العام، ونضمّ صوتنا إليه، ونتّحد معه. وكما أنّنا جزء من هذا الكلّ فعلا، فيجب أن نكون كذلك من الناحية العملية حتّى نستطيع أن نصل إلى أهدافنا في جميع المجالات. والنتيجة هي: إنّ نظام الخلقة سيكون دليلا واضحاً على قبول نظام إجتماعي صحيح في المستقبل، في عالم الإنسانية، وهذا هو الذي يستفاد من الآية مورد البحث، والأحاديث المرتبطة بقيام المصلح العالمي العظيم، المهدي الموعود(4). ﴿إِنَّ فِي هَذَا﴾ المذكور ﴿لَبَلَاغًا﴾ لكفاية أو لوصلة إلى البغية ﴿لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ﴾ لله بإخلاص.