التّفسير
تعظيم شعائر الله دليل على تقوى القلوب:
عقّبت الآيات هنا المسألة التي أكدّها آخِر الآيات السابقة، وهي مسألة التوحيد، وإجتناب أي صنم وعبادة الأوثان.
حيث تقول (حنفاء لله غير مشركين به)(1) أي أقيموا مراسم الحجّ والتلبية في حالة تخلصون فيها النيّة لله وحده لا يخالطها أي شرك أبداً.
"حنفاء" جمع "حنيف" أي الذي إستقام وإبتعد عن الضلال والإنحراف، أو بتعبير آخر: هو الذي سار على الصراط المستقيم، لأنّ "حنف" على وزن "صدف" تعني الرغبة، ومَن رغب عن كلّ إنحراف فقد سار على الصراط المستقيم.
وعلى هذا فإنّ الآية السابقة إعتبرت الإخلاص وقصد القربة إلى الله محرّكاً أساسيّاً في الحجّ والعبادات الاُخرى، حيث ذكرت ذلك بشكل عام، فالإخلاص أصل العبادة.
والمراد به الإخلاص الذي لا يخالطه أي نوع من الشرك وعبادة غير الله.
جاء في حديث عن الإمام الباقر (ع) أجاب فيه مبيّناً معنى كلمة حنيف: "هي الفطرة التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، قال: فطرهم الله على المعرفة"(2).
إنّ التّفسير الذي تضمنّه هذا الحديث، هو في الواقع إشارة إلى أساس الإخلاص، أي: الفطرة التوحيديّة التي تكون مصدراً لقصد القربة إلى الله، وتحريكاً ذاتياً من الله.
ثمّ ترسم الآية - موضع البحث - صورة حيّة ناطقة عن حال المشركين وسقوطهم وسوء طالعهم، حيث تقول: (ومن يشرك بالله فكأنّما خرّ من السّماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح من مكان سحيق)(3).
"السّماء" هنا كناية عن التوحيد، و "الشرك" هو السبب في السقوط من السّماء هذه.
ومن الطبيعي أن تكون في هذه السّماء نجوماً زاهرة وشمساً ساطعة وقمراً منيراً فطوبى لمن يكون شمساً أو قمراً أو في الأقل نجماً متلألئاً، ولكن الإنسان عندما يسقط من هذا المكان العالي يبتلى بأحد أمرين: فإمّا يصبح طعماً للطيور الجوارح أثناء سقوطه وقبل وصوله إلى الأرض، وبعبارة أُخرى: يبتلى بفقدانه هذا
المكان السامي بأهوائه النفسيّة المعاندة.
حيث تأكل هذه الأهواء جانباً من وجوده.
وإذا نجا بسلام منها، ابتلي بعاصفة هوجاء تدكّه في إحدى زوايا الأرض بقوّة تفقده سلامته وحياته، ويتناثر بدنه قطعاً صغيرة في أنحاء المعمورة، وهذه العاصفة الهوجاء قد تكون كناية عن الشيطان الذي نصب شراكه للإنسان!
وممّا لا شكّ فيه أنّ الذي يسقط من السّماء يفقد كلّ قدرة على اتّخاذ قرار ما.
وتزداد سرعة سقوطه لحظة بعد أُخرى نحو العدم، ويصبح نسياً منسياً.
حقّاً أنّ الذي يفقد قاعدة السّماء التوحيديّة.
يفقد القدرة على تقرير مصيره بنفسه.
وكلّما سار في هذا الإتّجاه إزداد سرعة نحو الهاوية، وفقد كلّ ما لديه.
ولا نجد تشبيهاً للشرك يُضاهي في هذا التشبيه الرائع.
كما تجب ملاحظة ما تأكّد في هذا الزمان من حالة إنعدام الوزن في السقوط الحرّ.
ولهذا تجرى إختبارات على الفضائيين للإستفادة من هذه الحالة ليعدّوا أنفسهم للسفر إلى الفضاء.
لأنّ مسألة إنعدام الوزن هي التي تؤدّي بالإنسان إلى إضطرابه بشكل خارق أثناء السقوط الحرّ.
والذي ينتقل من الإيمان إلى الشرك ويفقد قاعدته المطمئنة وأرضه الثابتة تبتلى روحه بمثل حالة إنعدام الوزن، ويسيطر عليه إضطراب خارق للعادة.
﴿حُنَفَاء لِلَّهِ﴾ موحدين له ﴿غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء﴾ أي فقد أهلك نفسه هلاك من سقط منها ﴿فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ﴾ تأخذه بسرعة فترفعه قطعا من حواصلها وقرىء بالتشديد أي تسقطه ﴿فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ بعيد وأو للإباحة في التشبيهين.