وبعد أن عرض القرآن الكريم هذا المثال الواضح الدافع، قرّر حقيقة مهمّة، وهي (ما قدّروا الله حقّ قدره).
فالمشركون لو كانوا على أدنى معرفة بالله تعالى لما أنزلوا قدره إلى مستوى هذه الآلهة الضعيفة العاجزة ولما جعلوا مصنوعاتهم شركاء له، تعالى عمّا يفعلون علوّاً كبيراً، ولو كان لديهم أدنى معرفة بقدرة الله لضحكوا من أنفسهم وسخروا من أفكارهم.
وتقول الآية في النهاية: (إنّ الله لقوي عزيز).
أجل، إنّ الله قادر على كلّ شيء ولا مثيل لقدرته ولا حدّ، فهو ليس كآلهة المشركين التي لو إجتمعت لما تمكّنت من خلق ذبابة، بل ليس لها القدرة على إعادة ما سلبه الذباب منها.
بحث
مثال واضح لبيان نقاط الضعف:
يرى عدد من المفسّرين أنّ القرآن جاء بمثل في آياته المذكورة آنفاً، إلاّ أنّه لم يبيّن المثل بصراحة، بل أشار إلى مواضع أُخرى في القرآن، أو أنّ المثل هنا جاء لإثبات أمر عجيب، وليس بمعنى المثل المعروف.
ولا شكّ في أنّ هذا خطأ، لأنّ القرآن دعا عامّة الناس إلى التفكّر في هذا المثل.
وهذا المثل هو ضعف الذبابة من ناحية، وقدرتها على سلب ما لدى الأوثان، وعجز هذه الأوثان عن إسترداد ما سلبه الذباب منها، وهذا المثل ضرب للمشركين من العرب، لكنّه يعني الناس جميعاً ولا يخصّ الأصنام، بل يعمّ جميع ما دون الله تعالى، من فراعنة ونماردة، ومطامع وأهواء، وجاه وثروة.
فكلّها ينطبق عليها المثل، فلو تكاتفوا وجمعوا عساكرهم وما يملكون من وسائل وطاقات، لما تمكّنوا من خلق ذبابة، ولا من استعادة ما سلب الذباب منهم.
سؤال وجواب:
قد يقال: إنّ اختراعات العصر الحديث قد تجاوزت أهميّة خلق ذبابة بمراتب كبيرة!
فوسائل النقل السريعة التي تسبق الريح وتقطع المسافات الشاسعة في طرفة عين، والأدمغة الألكترونية وأدقّ الأجهزة الحديثة بإمكانها حلّ المعضلات الرياضية بأسرع وقت ممكن، لا تدع قيمة لهذا المثل في نظر إنسان العصر.
وجواب ذلك هو أنّ صنع هذه الأجهزة - بلا شكّ - يبهر العقول، وهو دليل على تقدّم الصناعة البشرية تقدّماً مدهشاً، ولكنّه يهون مقابل خلق كائن حي مهما كان صغيراً، فلو درسنا حياة حشرة كالذبابة ونشاطها البايولوجي بدقّة، لرأينا أنّ بناء مخّ الذبابة وشبكة أعصابها وجهاز هضمها أعلى بدرجات من أعقد الطائرات، وأكثر تجهيزاً منها، ولا يمكن مقارنتها بها.
وما زال في قضيّة الحياة وإحساس وحركة المخلوقات أسرار غامضة على العلماء، وهذه المخلوقات وتركيبها البايولوجي، هي نفسها غوامض لم تحل بعد.
وقد ذكر علماء الطبيعة أنّ عيني هذه المخلوقات الصغيرة جدّاً، كالحشرات - مثلا - تتركّب من مئات العيون! فالعينان اللتان تبدوان لنا إثنتين لا أكثر، هما مؤلّفتان من مئات العيون الدقيقة جدّاً، ويطلق على مجموعها العين المركبة، فلو فرضنا أنّ الإنسان صنع موادّ من أجزاء الخليّة التي لا حياة فيها، فكيف يتمكّن من صنع مئات العيون الصغيرة التي لكلّ منها ناظورها الدقيق، وقد رصّت طبقاتها بعضها إلى بعض، وربطت أعصابها بمخّ الحشرة لتنقل المعلومات إليها، ولتقوم بردّ فعل مناسب لما يحدث حولها؟
لن يستطيع الإنسان خلق مثل هذا الكائن الذي يبدو تافهاً مع أنّه عالم مفعم بالأسرار البالغة الغموض.
ولو فرضنا أنّ الإنسان بلغ ذلك، فلا يسمّى إنجازه المفترض خلقاً، لأنّه لم يتعدّ التجميع لأجهزة متوفّرة في هذا العالم.
فمن يركّب قطع السيّارة لا يسمّى مخترعاً.
﴿مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ ما عرفوه حق معرفته إذ أشركوا به ما يعجز عن ذب الذباب عن نفسه ﴿إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ﴾ قادر ﴿عَزِيزٌ﴾ غالب فكيف يشاركه العاجز المغلوب لأضعف خلقه.