لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
والآية التالية تتكلم على إرث سليمان أباه داود أولا، فتقول: (وورث سليمانُ داود). وهناك كلام بين المفسّرين في المراد من الإرث هنا، ما هو؟ فقال بعضهم: هو ميراث العلم فحسب... لأنّ في تصورهم أنّ الأنبياء لا يورثون. وقال بعضهم: هو ميراث المال والحكومة، لأنّ هذا المفهوم يتداعى إلى الذهن قبل أي مفهوم آخر. وقال بعضهم: هو منطق الطير. ولكن مع الإلتفات إلى أنّ الآية مطلقة، وقد جاء في الجمل التالية الكلام على العلم وعن جميع المواهب (أوتينا من كل شيء) فلا دليل على حصر مفهوم الآية وجعله محدوداً، فبناءً على ذلك فإنّ سليمان ورث كل شيء عن أبيه. وفي الرّوايات الواردة عن أهل البيت (ع) أنّهم كانوا يستدلون بهذه الآية على عدم صحة ما نسب إلى النّبي ص من حديث "نحن معاشر الأنبياء لا نورث وما تركناه صدقة" وأنّه ساقط من الإعتبار لمخالفته كتاب الله. وفي بعض الأحاديث عن أهل البيت أنّه لما أجمع أبوبكر على أخذ فدك من فاطمة(ع)، محتجّاً بالحديث آنف الذكر، جاءته فاطمة(ع) فقالت: (يا أبابكر، أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟! لقد جئت شيئاً فريّاً، فعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم، إذ يقول: (وورث سليمان داود)(1). ثمّ تضيف الآية حَاكيةً عن لسان سليمان (وقال يا أيّها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين). وبالرغم من ادعاء بعضهم أن تعبير النطق والكلام في شأن غير الناس لا يمكن إلاّ على نحو المجاز.. إلاّ أنّه إذا أظهر غير الانسان أصواتاً من فمه كاشفاً عن مطلب ما، فلا دليل على عدم تسميته نطقاً، لأنّ النطق كل لفظ مبين للحقيقة والمفهوم(2). ولانريد أنّ نقول أنّ ما يظهر من أصوات الحيوانات عند الغضب أو الرضا أو الألم أو إظهار الشوق لأطفالها هو نطق، كلاّ فهي أصوات تقترن بحالات الحيوان... إلاّ أنّنا - كما سيأتي في الآيات التالية - سنرى بتفصيل أن سليمان تكلم مع الهدهد في مسائل وحمّله رسالة... وطلب منه أن يتحرّى جوابها. وهذا الأمر يدلّ على أن الحيوانات بالإضافة إلى أصواتها الكاشفة عن حالاتها الخاصة... لها القدرة على النطق في ظروف خاصة بأمر الله، كما سيأتي الكلام في شأن تكلم النمل في الآيات المقبلة إن شاء الله. وبالطبع فإن النطق استعمل في القرآن بمعناه الوسيع، حيث يبيّن حقيقة النطق ونتيجته، وهو بيان ما في الضمير، سواءً كان ذلك عن طريق الألفاظ أو عن طريق الحالات الأخر، كما في قوله تعالى: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) (3) إلاّ أنّه لا حاجة إلى تفسير كلام سليمان ومنطق الطير بهذا المعنى... بل طبقاً لظاهر الآيات فإن سليمان كان بإمكانه أن يعرف ألفاظ الطير الخاصة الدالة على مسائل معيّنة فيشخّصها، أو أنّه كان يتكلم معها فعلا.. وسنتكلم في هذا الشأن في البحوث إن شاء الله تعالى. أمّا جملة (أُوتينا من كل شيء) فهي على خلاف ما حدده جماعة من المفسّرين، لها مفهوم واسع شامل.. فهي تشمل جميع الأسباب اللازمة لإقامة حكومة الله في ذلك الحين.. وأساساً فإن الكلام سيقع ناقصاً بدونها، ولا يكون له ارتباط واضح بما سبق. وهنا يثير الفخر الرازي سؤالا فيقول: أليس التعبير بـ (علمنا) و (أوتينا) من قبيل كلام المتكبرين؟! ثمّ يجيب على سؤاله هذا بالقول: إن المراد من ضمير الجمع هنا هو سليمان وأبوه، أو هو و معاونوه في الحكومة.. وهذا التعبير مستعمل حين يكون الشخص في رأس هيئة ما، أن يتكلم عن نفسه بضمير الجمع!. بحوث 1 - علاقةُ الدين بالسيّاسة خلافاً لما يتصوره أصحاب النظرة الضيقة من أن الدين مجموعة من النصائح والمواعظ، أو المسائل الخاصة بالحياة الشخصيّة للانسان.. بل هو مجموعة من القوانين والمناهج الحيوية التي تستوعب جميع مسائل حياة الإنسان وخاصة المسائل الإجتماعية. فقد بُعث الأنبياء لإقامة القسط والعدل كما في الآية (25) من سورة الحديد، إذ يقول سبحانه (ليقوم الناس بالقسط). وليضع الأنبياء عن الناس (إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) فيتمتعوا بالحرية كما أشارت إلى ذلك الآية (157) من سورة الأعراف. والدين رحمة ومنجاة للمستضعفين وتخليصهم من نير المتكبرين الظالمين. والدين - أخيراً - مجموعة من التعاليم والتربية في مسير تزكية الإنسان والرقي به نحو الكمال (كما أشارت إليه الآية 2 من سورة الجمعة). وبديهي أن هذه الأهداف الكبرى لا يمكن أن تتحق دون إقامة الحكومة! فمن ذا يستطيع أن يقيم القسط بين الناس بمجرّد التوصيات الاخلاقيّة؟.. أو أنيقطع أيدي الظالمين عن المستضعفين، ويضع الإصر والأغلال عن يدي الإنسان ورجليه دون الاستناد إلى قدرة شاملة!! ومن يستطيع أن ينشر الثقافة الصحيحة والمسائل التربوية في مجتمع يشرف عليه المفسدون، فيمنح القلوب الملكات الأخلاقيّة؟ وهذا هو ما نقوله بأنّ الدين لا ينفصل عن السياسة، فإذا انفصل الدين عن السياسة فقد فقد عضده وشُلت يده، وإذا انفصلت السياسة عن الدين تبدّلت إلى عنصر مخرب يستغله أصحاب المنافع الشخصيّة! إن النّبي (ص) إنّما وفق لنشر هذا الدين القويم السماوي في أرجاء العالم بسرعة، لأنّه أسس حكومته في أوّل فرصة واتته، وتابع أهدافه الإلهية عن طريق الحكومة الإسلامية. وهناك بعض الأنبياء ممن نال مثل هذا التوفيق فنشروا دعوتهم إلى الله في الأرض أفضل بشكل... أمّا من لم تسمح لهم الفرصة بإقامة حكومة إلهية، فإنّهم لم يحالفهم التوفيق كثيراً في نشر رسالتهم الالهية.. 2 - آيات الحكومة الإلهية ممّا يلفت النظر أنّنا نجد في قصّة سليمان وداود - بصورة واضحة - أنّهما استطاعا أن يقلعا جذور الشرك وآثاره بسرعة، وأن يقيما نظاماً إلهياً عادلا.. نظاماً يقوم على اسس واركان - طبقاً لما في الآيات محل البحث - العلم والمعرفة والإطلاع في المجالات المختلفة. نظاماً يتوج منهجه اسم الله، فهو على رأس لوحته. نظاماً استعمل كل قواه حتى الطائر، من أجل الوصول إلى أهدافه. نظاماً جعل الشياطين مغلولةً، والظالمين اذلاء لا يتجاوزون حدودهم. وأخيراً فإنّ هذا النظام كانت لديه القدرة النظامية "العسكرية" الكافية، والجهاز التجسس "الأمني"، والأفراد المتخصصون في المجالات الإقتصادية والإنتاجيّة والعلمية المختلفة، وكل ذلك كان تحت خيمة "الإيمان" ومظلّة "التوحيد". 3 - منطق الطير في الآيات المتقدمة والآيات التالية بعدها التي تذكر قصّة سليمان والهدهد، إشارة صريحة إلى منطق الطير، وبعض ما يتمتع به الحيوان من شؤون. وممّا لا شك فيه أنَّ الطيور كسائر الحيوانات تظهر أصواتاً في حالاتها المختلفة، بحيث يمكن معرفتها بدقة، أن أيَّ صوت يعبّر عن الجوع؟ وأىّ صوت يعبر عن الغضب؟ وأي صوت يعبر عن الرضا؟ وأي صوت يعبّر عن التمني؟ وأىّ صوت يدعوا الأفراخ إليه؟ وأي صوت يعبر عن القلق والإستيحاش والرعب؟. فهذه الأصوات من أصوات الطيور، لا مجال للشك والتردد فيها، وكلّنا نعرفها مع اختلاف في كثرة الإطلاع أو قلّته! إلاّ أنّ آيات هذه السورة - بحسب الظاهر - تبيّن موضوعاً أوسع ممّا ذكرناه آنفاً.. فالبحث هنا عن نطقها بنحو "معمّى خفيّ" بحيث ينطوي على مسائل دقيقة، والبحث عن تكلمّها وتفاهمها مع الانسان.. وبالرغم من أن هذا الأمر مدعاة لتعجب بعضهم، إلاّ أنّه مع الإلتفات إلى المسائل المختلفة التي كتبها العلماء ومشاهداتهم الشخصية في شأن الطيور، لا يكون الموضوع عجيباً. فنحن نعرف عن ذكاء الطيور مسائل أعجب من هذا. فبعضها لديها المهارة في صنع أعشاشها وبيوتها بشكل أنيق، قد يفوق عمل مهندسينا أحياناً. وبعض الطيور تعرف عن وضع أفراخها في المسقبل، وحاجاتها، وتعمل لها عملاً دقيقاً، بحيث تكون مثار إعجابنا جميعاً. وتوقعها لما سيكون عليه الجوّ حتى بالنسبة لعدّة أشهر تالية، ومعرفتها بوقوع الزلازل قبل أن تقع، وقبل أن تسجلها مقاييس الزلازل المعروفة!. والتعليمات التي تصدر إلى الحيوانات في "السيرك" ونشاطاتها وأعمالها الخارقة للعادة الحاكية عن ذكائها العجيب.. أعمال النمل وحركاته العجيبة وتمدنه المثير. عجائب حياة النحل، وما تقوم به من أعمال محيرة. معرفة الطيور المهاجرة بالطرق الجويّة، وقد تقطع المسافة بين القطبين الشمالي والجنوبي! خبرة الأسماك في مهاجرتها الجماعية في أعماق البحار. كل ذلك من المسائل العلمية المسلّم بها، كما أنّها دليل على وجود مرحلة مهمّة من الإدراك أو الغريزة - أو ما شئت فسمه - في هذه الحيوانات!. وجود الحواس غير الطبيعية في الحيوانات - كالرادار للخفاش، وحاسة الشم القوية في بعض الحشرات، والنظر الحاد عند بعض الطيور، وأمثالها، دليل آخر على أنّها ليست متخلفة عنّا في كل شيء! فمع الأخذ بنظر الإعتبار جميع ما بيّناه، لا يبقى مجال للعجب من أن لهذه الحيوانات تكلماً ونطقاً خاصاً، وأنّها تستطيع أن تتكلم مع الإنسان الذي يعرف، "ألف باءها"... وقد وردت الإشارة في آيات القرآن إلى هذا المعنى، ومنها الآية (38) من سورة الأنعام (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلاّ أُمم أمثالكم)(4). وفي الرّوايات الإسلامية أُمور كثيرة أيضاً، تكشف عن نطق الحيوانات وخاصة الطيور.. وحتى أنّه نقل لكلّ "منطقٌ" هو بمثابة الشعار، بحيث يطول المقام بنا لو تعرضنا له بالتفصيل(5). ففي رواية عن الإمام أبي عبد الله الصادق أنّه قال: قال أمير المؤمنين علي لابن عباس "إنّ الله علّمنا منطق الطير كما علّم سليمان بن داود ومنطق كل دابة في برّ أو بحر" (6). 4 - رواية "نحن معاشر الأنبياء لا نورّث".. نقل أهل السنة في كتبهم المختلفة حديثاً عن النّبي (ص) مضمونه أنّه قال: "نحن معاشر الأنبياء لا نورّث، ما تركناه صدقة".. وربّما نقل الحديث في بعض الكتب بحذف الجملة الاّولى والاكتفاء بعبارة: "ما تركناه صدقة ". وسند هذا الحديث ينتهي في كتب أهل السنة المشهورة إلى "أبي بكر" - غالباً - إذ تولّى بعد النّبي (ص) زمام أُمور المسلمين، وحين طلبت منه سيدة النساء فاطمة(ع) أو بعض أزواج النّبيّ ميراثها منه امتنع عن دفع ميراث النّبي(ص) إليها استناداً إلى الحديث آنف الذكر. وقد نقل هذا الحديث "مسلم" في صحيحه "الجزء 3 - كتاب الجهاد والسير ص 1379" و"البخارى" في الجزء الثامن من كتاب الفرائض ص 185، وجماعة آخرون في كتبهم. ممّا يلفت النظر أن "البخاري" نقل في صحيحه حديثاً عن "عائشة" أنّها قالت: "إن فاطمة والعباس (ع) أتيا أبابكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله، وهما حينئذ يطلبان أرضيهما من فدك وسهمهما من خيبر، فقال أبوبكر: سمعت رسول الله (ص) يقول: لا نورّث... ما تركناه صدقة، إنّما يأكل آل محمّد من هذا المال... قال أبوبكر: والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله يصنعه فيه إلاّ صنعته "قال" فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت(7)!. وبالطبع فإنّ هذا الحديث فيه مجال للنقد والطعن من جهات متعددة، إلاّ أنّنا نقتصر في هذا التّفسير على ذكر مايلي: 1 - إنّ هذا الحديث لا ينسجم مع نصّ القرآن... ووفقاً للقواعد الأصولية التي عندنا، أن كلّ حديث لا يوافق كتاب الله ساقط عن الإعتبار، ولا يمكن التعويل على أنّه حديث شريف من أحاديث النبي أو المعصومين(ع). ففي الآيات آنفة الذكر، ورد "وورث سليمان داود " وظاهر الآية مطلق يشمل حتى الأموال.. ونقرأ في شأن يحيى وزكريا (يرثني ويرث من آل يعقوب) "مريم الآية 6". ولا سيما في ما يخصّ زكريا، فإن كثيراً من المفسّرين أكّدوا على الأُمور المالية!. إضافة إلى ذلك فإنّ ظاهر آيات الإرث في القرآن المجيد عام ويشمل جميع الموارد. وربّما كان لهذا السبب أن يفسر "القرطبي" - مضطراً - الحديث على أنّه غالباً ما يكون كذلك، لا أنّه عام، وقال: هذا مثل قولهم: إنّا - معشَر العربِ - أقرى الناس للضيف، مع أن هذا الحكم غيرُ عام(8). إلاّ أن من الواضح أن هذا الكلام ينفي "قيمة هذا الحديث..." لأنّنا إذا توسّلنا بهذا العذر في شأن سليمان ويحيى، فإنّ شموله للموارد الأُخرى غير قطعي أيضاً. 2 - إنّ الرّواية المتقدمة تعارض رواية أُخرى تدلّ على أن أبابكر صمّم على إعادة فدك إلى فاطمة(ع)، إلاّ أن الآخرين ما نعوه، كما نقرأ في سيرة الحلبي: إن فاطمة قالت له: من يرثُك؟! قال أهلي وولدي! فقالت: فما لي لا أرث أبي؟. وفي كلام سبط بن الجوزي: إنّه كتب لها بفدك ودخل عليه عمر فقال: ما هذا؟ فقال: كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها. فقال: فماذا تنفق على المسلمين، وقد حاربتك العرب كما ترى؟ ثمّ أخذ عمر الكتاب فشقّه(9). ترى كيف يمنع النّبي(ص) موضوع الإرث وينهى عنه بصراحة، ويجرؤ أبوبكر على مخالفته؟! ولم استند عمر إلى المسائل العسكرية وحاجة المعارك، ولم يستند إلى الرواية؟! إن التحقيق الدقيق - في الروايات الآنفة - يدل على أن الموضوع لم يكن موضوع نهي النّبي عن الإرث، كما أثاره أبوبكر، بل المهم هنا المسائل السياسية آنئذ، وهذه المسائل هي ما تدعونا إلى أن نتذكر مقالة ابن أبي الحديد المعتزلي إذ يقول: سألت أستاذي "علي بن الفارقي": أكانت فاطمة، صادقةً؟ فقال: نعم. قلتُ: فلم لم يدفع اليها أبوبكر فدك وهي عنده صادقة؟ يقول: المعتزلى: فتبسم أستاذي، ثمّ قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه وحرمته وقلّة دعابته، قال: لو أعطاها اليوم فدكاً بمجرّد دعواها، لجاءت إليه غداً وادعت لزوجه الخلافة ولم يمكنه الإعتذار بشيء لأنّه يكون قد أسجل على نفسه أنّها صادقة فيما تدعى كائناً ما كان من غير حاجة إلى بينّة ولا شهود(10). 3 - الرواية المعروفة عن النّبي الواردة في كثير من كتب أهل السنّة والشيعة "العلماء ورثة الأنبياء" (11). وما نقل عنه(ص) أيضاً "إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً" (12). يُستفاد من مجموع هذين الحديثين أن الهدف الأساس للأنبياء نشر العلم، وهم يفخرون به، وأهم ما يتركونه هو الهداية. ومن يحصل على الحظ الكبير من العلم والمعرفة فهو وارثهم الأصيل... بصرف النظر عن الأموال التي يرثها عنهم، ثمّ إن هذا الحديث منقول في المعنى، وعُبّر عنه تعبيراً سيئاً ويحتمل أن يكون (ما تركناه صدقة) المستنبط من بعض الرّوايات مضاف عليه. ولكي لا يطول بنا الكلام ننهي كلامنا ببحث للمفسر المعروف من أهل السنة "الفخر الرازي" الذي أورده ذيل الآية (11) من سورة النساء إذ يقول: من تخصيصات هذه الآية "آية الإرث" ما هو مذهب أكثر المجتهدين، أن الأنبياء(ع)لا يورّثون، والشيعة خالفوا فيه.. رُوي أن فاطمة(ع) لما طلبت الميراث ومنعوها منه احتجوا بقوله(ع): "نحن معاشر الأنبياء لا نورّث.. ما تركناه صدقة".. فعند هذا احتجت فاطمة(ع) بعموم قوله: (للذكر مثل حظ الانثيين)وكأنّها أشارت إلى أن عموم القرآن لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد. ثمّ يضيف الفخر الرازي قائلا: إنّ الشيعة قالوا: بتقدير أن يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، إلاّ أنّه غير جائز هنا وبيانه من ثلاثة أوجه: "أحدها": أنّه على خلاف قوله تعالى حكاية عن زكريا(ع): (يرثني ويرث من آل يعقوب).. وقوله تعالى: (وورث سليمان داود) قالوا: ولا يمكن حمل ذلك على وراثة العلم والدين، لأنّ ذلك لا يكون وراثة في الحقيقة، بل يكون كسباً جديداً مبتدأً، إنّما التوريث لا يتحقق إلاّ في المال على سبيل الحقيقة. "وثانيها": أن المحتاج إلى معرفة هذه المسألة ما كان إلاّ فاطمة وعلي والعباس، وهؤلاء كانوا من أكابر الزهاد والعلماء وأهل الدين، وأمّا أبوبكر فإنّه ما كان محتاجاً إلى معرفة هذه المسألة البتة، لأنّه ما كان يخطر بباله أن يرث من الرّسول(ص)، فكيف يليق بالرّسول(ص) أن يبلغ هذه المسألة إلى من لا حاجة به إليها؟ ولا يبلغها إلى من له إلى معرفتها أشدٌّ الحاجة؟! "وثالثها": يحتمل أن قوله: "ما تركناه صدقة" صلة "لا نورث" والتقدير (الذي تركناه صدقة) فذلك الشىء (لايُوَرَّثُ). فإن قيل: لايبقى للرّسول خاصية في ذلك! قلنا: بل تبقى الخاصية، لإحتمال أن الأنبياء إذا عزموا على التصدّق بشيء فبمجرّد العزم يخرج ذلك عن ملكهم ولا يرثه وارث عنهم، وهذا المعنى مفقود في حق غيرهم! والجواب: أنّ فاطمة رضيت بقول أبي بكر بعد هذه المناظرة، وانعقد الإجماع على صحة ما ذهب إليه أبوبكر! الخ(13). إلاّ أن من الواضح أن جواب الفخر الرازي لا يناسب الإستدلالات السابقة، لأنّه كما ذكرنا آنفاً ونقلناه عن المصادر المعتبرة عند أهل السنة... فإن فاطمة لا أنّها لم ترض بكلام أبي بكر فحسب، بل ظلّت واجـدةً و"غاضبة" عليه، فلم تكلمه حتى آخر عمرها سلام اللّه عليها! ثمّ بعد هذا كلّه كيف يمكن أن يدّعي الإجماع في هذه المسألة، مع أنّ عليّاً وفاطمة(ع) والعباس وأضرابهم الذين تربّوا في مهبط الوحي ومركزه، كانوا مخالفين لهذا الرأي؟! ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ ماله وملكه وقيل نبوته وعلمه بأن قام مقامه في ذلك دون سائر بنيه وهم تسعة عشر الأول مروي ﴿وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ﴾ أصواته وفهم معانيها وضمير علمنا له ولأبيه أو له على عادة الملوك وكذا ﴿وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ يريد كثرة ما أوتي به ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ البين الظاهر.