لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
فينبغي أن نرسل شيئاً إليه (وإنّي مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون). فالملوك لهم علاقة شديدة بالهدايا، ونقطة الضعف كامنة في هذا الأمر، فيمكن أن يذعنوا للهدايا الغالية... فإذا أذعن سليمان بهذه الهدية فهو ملك، وينبغي أن نواجهه بالقوّة فنحن أقوياء... وإذا ألح على كلامه ولم يكترث بنا فهو نبيّ، وفي هذه الصورة ينبغي التعامل معه بالحكمة والتعقل! ولم يذكر القرآن أية هدية أرسلتها الملكة إلى سليمان، لكنّه بتنكيرها بيّن عظمتها، إلاّ أن المفسّرين ذكروا مسائل كثيرة لا يخلو بعضها من الإغراق: قال بعضهم: أرسلت إليه خمسمائة غلام وخمسمائة جارية ممتازة، وقد ألبست الرجال ثياب النساء والنساء ثياب الرجال، وجعلت الأقراط في آذانالرجال والاسورة في أيديهم، وألبست الجواري تيجاناً... وكتبت في رسالتها إلى سليمان: لو كنت نبيّاً فميّز الرجال من النساء!، وبعثت أُولئك على مراكب ثمينة، ومعهم جواهر وأحجار كريمة، وأوصت رسولها - في الضمن - أن أنظر كيف يواجهك سليمان عند وردك عليه، فإن واجهك بالغضب فاعلم بأنه سيرة الملوك، وإن واجهك بالمحبة واللطف فاعلم أنّه نبيّ. بحوث 1- آداب كتابة الرسائلما ورد في الآيات آنفة الذكر في شأن كتاب "سليمان" إلى أهل سبأ، هو قدوة لكتابة الرسائل و"الكتب" وقد تكون من المسائل المهمّة والمصيرية... إذ تبدأ بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) وتبيّن روح الكلام في جملتين مدروستين. ويظهر من التاريخ الإسلامي والرّوايات - بشكل واضح - أن أئمتنا الكرام عليهم الصلاة والسلام، كانوا يُعنون بالإختصار والإقتضاب في إرسال الكتاب خالياً من الحشو والزوائد، وهو مدروس أيضاً. فأمير المؤمنين(ع) يكتب إلى عماله وممثليه في بعض كتبه: "أدقّوا أقلامكم، وقاربوا بين سطوركم، واحذفوا عنّي فضولكم، واقصدوا قصد المعاني، وإيّاكم والإكثار، فإن أموال المسلمين لا تحتمل الإضرار" (4). إن بري لسان القلم يجعل الكلمات أصغر، وتقارب السطور وحذف الفضول، لايؤدي إلى الاقتصاد في الاموال العامة أو الشخصية فحسب - بل يقتصد في وقت الكاتب والقارىء أيضاً... وقد يضيع الفضول والتشريفات الواردة في أثناء جمل الكتاب الهدف من كتابته، فلا يصل الكاتب و القارىء إلى الهدف المنشود! وفي هذه الأيّام أصبح من المألوف الا كثار في كتابة العناوين البراقة والألقاب الفخمة وزيادة المقدمات والحواشي والاضافات على خلاف ما كان في صدر الاسلام ممّا يهدر الكثير من الطاقات والاوقات والثروات. وخاصة ينبغي الإلتفات إلى أن الكتاب "الرسالة" في ذلك العصر كان يتطلب زماناً طويلاً لإيصاله وبذل المال لحامل الكتاب، ومع ذلك كانت الكتب موجزة مقتضبة، ويمكن ملاحظة أمثلة منها في كتب النّبي(ص) إلى خسرو پرويز وقيصر الروم وأمثالهما. وأساساً فإنّ رسالة الإنسان وكتابه دليل على شخصيته، كما أن حامل الكتاب والرّسول دليل على شخصية المرسل أيضاً. يقول الإمام علي(ع) في نهج البلاغة: "رسولك ترجمان عقلك، وكتابك أبلغ من ينطق عنك" (5). ويقول الإمام الصادق(ع) "يستدل بكتاب الرجل على عقله وموضع بصيرته، وبرسوله على فهمه وفطنته" (6). والجدير بالذكر أنّه يستفاد من الرّويات الإسلامية أنّ ردّ الكتاب واجب كردّ السلام، إذ نقرأ عن الإمام الصادق أنّه قال: "ردّ جواب الكتاب واجب كوجوب ردّ السلام" (7). وحيث أن كل رسالة أو كتاب مشفوع عادة بالتحية، فلا يبعد أن يكون مشمولا بالآية الكريمة (وإذا حييتم بتحية فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها)(8). 2 - هل دعا سليمان إلى التقليد؟! بعض المفسّرين استفادوا من كتاب سليمان أنّه دعا أهل سبأ إليه دون دليل! ثمّ أجابوا بأن مجيء الهدهد بتلك الصورة "المعجزة" بنفسه دليل على حقانية دعوته(9). إلاّ أنّنا نعتقد أنّه لا حاجة إلى مثل هذه الردود والإجابات، فوظيفة النّبي هي الدعوة. ووظيفة الآخرين التحقيق في أمره. وبتعبير آخر: إنّ الدعوة هي الباعث على التحقيق... كما قامت بذلك ملكة سبأ، فاختبرت سليمان وتحققت عنه، أهو ملك أم نبىّ؟! 3 - مداليل عميقة في قصّة سليمان (ع) نلاحظ في هذا القسم من قصّة سليمان(ع) إشارات قصيرة إلى مسائل مهمّة أيضاً: أ - تتلخص "روح" دعوة الأنبياء في نفي الإستعلاء الذي يعني نفي كل نوع من أنواع الإستثمار والإستعمار، والتسليم للحق والقانون الصحيح. ب - بالرغم من أنّ أصحاب ملكة سبأ أعلنوا استعدادهم لخوض المعركة، إلاّ أن الطبع النسائي الشفاف في الملكة لم يكن موافقاً على ذلك، ولذلك عطفت انظارهم إلى مسائل أُخرى. ج - ولو أن الملكة أذعنت لرأيهم في الحرب لكانت بعيدة عن الحقيقة والصواب، وسنرى أن إقدامها على إرسال الهدية كان مثمراً، وكانت نتيجة طيبة لها ولقومها، وكان سبباً لأن يهتدوا إلى طريق الحق والعدل، ويبتعدوا عن سفك الدماء! د - ويستفاد من هذه القضية ضمناً أن المناهج التشاورية لا تنتهي إلى الحق دائماً.. إذ كانت عقيدة الأكثرية هنا أن يلجأوا إلى القوّة والقتال في حين أن ملكة سبأ كانت ترى خلاف نظرتهم، وسنرى أن الحق كان معها في نهاية القصّة! هـ - ويمكن أن يقال: إنّ هذا النوع من التشاور أو المشورة غير ما هو جار بيننا اليوم من التشاور.. فنحن نأخذ برأي الأكثرية على أنّه هو المعيار، ونعطيهم حق التصويت والتصويب. في حين أن التشاور محل البحث هو مجرّد إبداء النظر من قبل الأكثرية، والرأي الحاسم لقائد تلك الجماعة.. ولعل الآية (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكّل على الله) (10)تشير إلى هذا القسم الثّاني من التشاور. أمّا الآية الكريمة (وأمرهم شورى بينهم) (11) فناظرة إلى القسم الأوّل(12). و - قال أصحاب ملكة سبأ لها (نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد) ولعل هذا الإختلاف بين "القوة" و"البأس" في التعبير، هو أنّ "القوة" إشارة إلى الكمية العظيمة من الجيش... و"البأس الشديد" إشارة إلى كيفية العمل وروح الشجاعة والشهامة في الجيش، أي أن مرادهم أنّهم مستعدون للقتال من الناحية "الكمية" ومن حيث "الكيفية" لمواجهة العدو أيضاً. 4 - علامات الملوك يستفاد من هذه الآيات - بصورة جيدة - أن الحكومة الإستبدادية والسلطنة في كل مكان مدعاة للفساد وإذلال الأعزة... لأنّ الملوك يبعدون عنهم الشخصيات الفذة، ويدنون المتملقين، ويبحثون في كل شيء عن مصالحهم ومنافعهم الذاتية، وهم أهل رشوة وذهب ومال، وبالطبع فإنّ الامراء والاعوان القادرين على هذه الاُمور أحبّ عندهم من غيرهم. وبينما نرى تفكير الملوك ورغباتهم تتلخص في نيل الهدايا والجاه والمقام والذهب والمال... نجد أنّ الأنبياء لا يفكرون إلاّ بإصلاح أممهم!. ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم﴾ رسلا ﴿بِهَدِيَّةٍ﴾ أصانعه بها عن ملكي ﴿فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾ من حالة فأعمل بحسبه.