لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
أمّا الشخص الآخر فقد كان رجلا صالحاً له علم ببعض ما في الكتاب، ويتحدث عنه القرآن فيقول: (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك). فلمّا وافق سليمان(ع) على هذا الأمر، أحضر عرش بلقيس بطرفة عين بالإستعانة بقوته المعنوية (فلمّا رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربّي ليبلوني أأشكر أم أكفر). ثمّ أضاف قائلا: (ومن شكر فإنّما يشكر لنفسه ومن كفر فإنّ ربّي غني كريم). وهناك اختلاف بين المفسّرين وكلام طويل في أن هذا الشخص الذي جاء بعرش الملكة، من كان؟! ومن أين له هذه القدرة العجيبة؟! وما المراد (عنده علم من الكتاب)؟ إلاّ أنّ الظاهر أنّ هذا الشخص هو أحد أقارب سليمان المؤمنين وأوليائه الخاصين، وقد جاء اسمه في التواريخ بأنه (آصف بن برخيا) وزير سليمان وابن أخته(2). وأمّا "علم الكتاب" فالمراد منه معرفة ما في الكتب السماوية... المعرفة العميقة التي تمكّنه من القيام بهذا العمل الخارق للعادة! وقال بعضهم: يُحتمل أن يكون المراد من (علم الكتاب) هو اللوح المحفوظ الذي علم الله بعضه ذلك الرجل "آصف" ولذلك استطاع أن يأتي بعرش ملكة سبأ بطرفة عين، ويحضره عند سليمان!. وقال كثير من المفسّرين: إنّ هذا الرجل المؤمن كان عارفاً بالاسم الأعظم، ذلك الاسم الذي يخضع له كل شيء، ويمنح الإنسان قدرة خارقة للعادة!. وينبغي القول أن "الاسم الأعظم" ليس كما يتصوره الكثير بأنّ مفهومه أن يتلفظ الإنسان بكلمة فيكون وراءها الأثر العجيب، بل المراد منه التخلق بذلك الاسم والوصف، أي على الإنسان أن يستوعب "الاسم" في نفسه وروحه، وأن يتكامل علمه وخلقه وتقواه وإيمانه إلى درجة يكون بها مظهراً من مظاهر ذلك الاسم الأعظم، فهذا التكامل المعنوي والروحاني (بواسطة الاسم الأعظم) يوجد في الإنسان مثل هذه القدرة الخارقة للعادة(3). كما أنّ للمفسّرين في جملة (قبل أن يرتد إليك طرفك) لكن بملاحظة الآيات الاُخر من القرآن يمكن معرفة حقيقتها... ففي الآية (43) من سورة إبراهيم نقرأ: (لا يرتد إليهم طرفهم). ونحن نعرف أن الإنسان عندما يستوحش ويذهل، تبقى عيناه مفتوحتان على وتيرة واحدة كأنّهما عينا ميت لا تتحركان. فبناءً على ذلك فالمراد منه أنّني سأحضر عرش ملكة بلقيس قبل أن يتحرك جفناك(4). مسائل مهمة: 1- الجواب على بعض الاسئلة من الأسئلة - التي تثار حول الآيات آنفة الذكر - هذا السؤال: لِمَ لَم يقدم سليمان بنفسه على هذا العمل الخارق للعادة؟ فهو نبىّ كريم من قبل الله وذو معاجز! فلم حوّل هذا الأمر إلى "آصف بن برخيا" ؟! لعل الوجه في ذلك أن آصف كان وصيّه، وكان سليمان يريد أن يبيّن موقعه في هذه اللحظة الحساسة للجميع(5). إضافة إلى ذلك فإن من المهم أن يختبر الأستاذ تلاميذه في الموارد اللازمة ويعرف جدارتهم، وأساساً فإنّ جدارة التلاميذ دليل كبير على جدارة الأستاذ. السؤال الآخر هو: كيف جاء سليمان بعرش ملكة سبأ وأحضره عنده دون إذنها؟. فيقال: لعل ذلك لبيان هدف أسمى، كمسألة الهداية وبيان معجزة كبيرة. ثمّ بعد هذا كله فإننا نعرف أن الملوك ليس لهم مال من أنفسهم، بل أموالهم في الغالب مغصوبة من الآخرين!. السؤال الآخر: كيف تكون لعفريت من الجن القدرة على أمر خارق للعادة كهذه الحادثة؟! وقد بيّنا الجواب على هذا السؤال في الأبحاث المتعلقة بالإعجاز، فقلنا: إن من الناس حتى غير المؤمنين من تكون له قدرة على بعض الأُمور الخارقة للعادة (وذلك للرياضة المجهدة ومجاهدة النفس) إلاّ أن الفرق بين ما يقومون به ممّا يخرق العادة وبين المعجزة هو أنّه لما كانت أعمالهم مستندة إلى قدرة بشرية محدودة... فهي "أعمالهم الخارقة للعادة" محدودة دائماً، في حين أن المعاجز تستند إلى قدرة الله التي لا نهاية لها، وقدرته كسائر صفاته غير محدودة!. لذلك نرى أن العفريت من الجن يحدّد قدرته - على فترة بقاء سليمان في مجلس القضاء والتحقيق في أُمور البلد، ليأتيه بعرش ملكة سبأ، في حين أنّ آصف بن برخيا لم يحدد قدرته، وتحديدها بارتداد الطرف هو في الحقيقة إشارة إلى أدنى فترة زمنية ممكنة... ومن المسلم به أن سليمان(ع) يشجع الاعمال التي تبيّن للناس الاشخاص الصالحين، ويباركها، لا عمل العفريت الذي قد يوقع العوام والبساط في الوهم، فيعدونه دليلا على تقواه وطهارته!. وبديهي أن أىّ إنسان يقوم بعمل مهم في المجتمع ويكون عمله مقبولا فانّ أفكاره ومعتقداته ستتجذّر وتتحدّد في المجتمع بذلك "العمل" فلا ينبغي أن يأخذ العفاريت زمام المبادرة في حكومة سليمان الإلهية، بل ينبغي أن يقوم به من عندهم علم من الكتاب ليؤثروا على أفكار الناس وعواطفهم. 2- القوة والأمانة شرطان مهمان جاء في الآيات المتقدمة - والآية (26) من سورة القصص - أن أهم شرط للعامل أو الموظف شيئان: الأوّل القوة، والثّاني الأمانة!. وبالطبع فإنّ المباني الفكرية والأخلاقية قد تقتضي أن يكون الإنسان حاوياً على هاتين الصفتين "كما هي الحال في شأن موسى الوارد ذكره في سورة القصص" وقد يقتضي نظام المجتمع والحكومة الصالحة أن يتصف بهاتين الصفتين حتى العفريت من الجن إلزاماً.. ولكن - على كل حال - فليس من الممكن القيام بأي عمل كبير أو صغير في المجتمع دون توفر هاتين الصفتين... سواءً كان مصدرهما "التقوى" أو "النظام القانوني".. "فتأملّوا بدقة". 3- الفرق بين "علم من الكتاب" و "علم الكتاب" جاء التعبير في الآيات - محل البحث - عن الذي أتى بعرش ملكة سبأ في أدنى مدّة "وبطرفة عين" بـ (من عنده علم من الكتاب) بينما جاء في الآية (43) من سورة الرعد في شأن النّبي(ص) ومن يشهد على حقانيته (قل كفى بالله شهيداً بين وبينكم ومن عنده علم الكتاب). في حديث عن أبي سعيد الخدري أنّه قال: سألت رسول الله(ص) عن (الذي عنده علم من الكتاب) الوارد في قصّة سليمان، فقال(ص): هو وصي أخي سليمان بن داود، فقلت: والآية (ومن عنده علم الكتاب) عمن تتحدث؟ فقال(ص): ذاك أخي علي بن أبي طالب(ع)(6). والإلتفات إلى الفرق بين "علم من الكتاب" الذي يعني "العلم الجزئي" و (علم الكتاب) الذي يعني "العلم الكلي"، يكشف البون الشاسع بين آصف وعلي(ع). لذلك نقرأ في روايات كثيرة أنّ الاسم الأعظم ثلاثة وسبعون حرفاً إنّما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالارض ما بينه وبين سرير بلقيس حتى تناول السرير بيده، ثمّ عادت الارض كما كانت أسرع من طرفة عين - كان "حرف" واحد منه عند "آصف بن برخيا" وقام بمثل هذا العمل الخارق للعادة - وعندنا نحن الائمّة من أهل البيت - اثنان وسبعون حرفاً، وحرف واحد عند الله تبارك وتعالى استأثر به في علم الغيب عنده(7). 4 - هذا من فضل ربّي إن عبدة الدنيا وطُلاّبها المغرورين حين ينالون "القوّة" والإقتدار ينسون كل شيء إلاّ أنفسهم.. وكل ما يقع في أيديهم يحسبونه من عند أنفسهم لا من غيرهم، كما كان قارون يقول: (إنّما أوتيته على علم عندي).. في حين أن عباد الله وخاصّته كلما نالوا شيئاً قالوا: (هذا من فضل ربّي).. الطريف أن سليمان(ع) لم يقل هذا الكلام عندما شاهد عرش ملكة سبأ عنده فحسب، بل أضاف قائلا: (ليبلوني أأشكر أم أكفر). وقرأنا في هذه السورة - من قبل - أن سليمان(ع) كان يرى جميع النعم التي يتمتع بها من نعم الله عليه، وكان يدعو ربّه خاضعاً فيقول: (ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه)! أجل.. هذا هو معيار معرفة الموحدين المخلصين من عبدة الدنيا المغرورين.. وهذه سيرة الرجال العظماء في قبال غيرهم من الأنانيين!. وبالرغم من أنّه اعتيد كتابة هذه العبارة المهمة (هذا من فضل ربّي) من قبل المتظاهرين بالشكر على أبواب قصورهم "الطاغوتية" دون أن يعتقدوا بذلك أو يكون أدنى أثر من هذه العبارة في عملهم.. إلاّ أن المهم هو أن تكتب على الباب وعلى جبين حياة الإنسان وفي قبله... أيضاً، وأن يكشف عمله أن كل ذلك من فضل الله.. وأن يشكره عليه، لا شكراً باللسان فحسب، بل شكراً مقروناً بالعمل وفي جميع وجوده(8). 5 - كيف أحضر "آصف" عرش الملكة؟! لم يكن هذا (الأمر) أوّل خارق للعادة نراه في قصّة سليمان(ع)، أو في حياة الأنبياء بشكل عام.. وعلى من يحمل هذه التعبيرات على الكناية والمجاز، ولا يوخذ بظاهرها، أن يبينوا موقفهم من معاجز الأنبياء. ترى هل يرون الأعمال الخارقة للعادة للانبياء وخلفائهم محالا، وينكرونها كليّاً؟! فهذا ما لا ينسجم مع أصل التوحيد، ولا مع قدرة الله الحاكمة على قوانين الوجود، ولا ينسجم مع صريح القرآن في آيات كثيرة.. أيضاً. أمّا إذا قبلوا بإمكان المعاجز، فلا ينبغي أن يفرقوا بين أن يكون البحث عن إحياء الموتى وإبراء العمي من قبل "عيسى بن مريم"(ع)، أو عن إحضار عرش ملكة سبأ من قبل آصف بن برخيا. ولا شك أن هنا علائق مجهولة وعللا لا نعزفها في هذا الأمر، إذ نجهل ذلك بعلمنا "المحدود"، لكننا نعرف أن هذا الأمر غير محال. فهل استطاع "آصف" بقدرته المعنوية أن يبدل عرش بلقيس إلى أمواج من نور، وبلحظة أحضرها عند سليمان(ع) ثمّ أرجعها إلى مادتها الأصليّة مرّة أُخرى؟... هذا الأمر عندنا يلفّه الغموض. وما نعرف أن الإنسان يقوم اليوم بأعمال بواسطة الطرق العلمية المتداولة، كانت قبل مائتي عام تعدّ في دائرة المحال!. فمثلا لو كان يقال لشخص ما قبل عدّة قرون: سيأتي زمان على الناس يتكلم الرجل في المشرق فيسمعه الآخرون ويرونه في المغرب في اللحظة ذاتها.. لكان يعد هذا المقال ضرباً من الهذيان أو الحلم! وليس هذا إلاّ لأنّ الإنسان يريد أن يقوّم كل شيء بعلمه المحدود وقدرته القاصرة! مع أن ما وراء علمه وقدرته أسراراً خفية كثيرة! ﴿قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ﴾ الكتب المنزلة آصف بن برخيا وزيره كان صديقا يعلم اسم الله الأعظم أو الخضر أو جبرئيل أو سليمان ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ الطرف تحريك الأجفان للنظر ﴿فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا﴾ ساكنا ﴿عِندَهُ قَالَ﴾ شكرا ﴿هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي﴾ ليختبرني ﴿أَأَشْكُرُ﴾ نعمته ﴿أَمْ أَكْفُرُ﴾ بها ﴿وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ﴾ لاستدامته لها به واستزادتها ﴿وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ﴾ عن شكره وغيره ﴿كَرِيمٌ﴾ يعطيه مع كفره.