لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
فلمّا وصلت مَلكة سبأ إلى ذلك المكان (قيل لها أدخلي الصرح) (2) فلما رأته ظنته نهراً جارياً فرفعت ثوبها لتمر وسط الماء وهي متعجبة عن سبب وجود هذا الماء الجاري، وكما يقول القرآن: (فلما رأته حسبته لجةً وكشفت عن ساقيها)(3). إلاّ أنّ سليمان(ع) التفت إليها وقال: (إنّه صرح ممرد من قوارير)(4). فلا حاجة إلى الكشف عن ساقيك فلا يمس الماء قدميك. وهنا ينقدح سؤال هام، وهو أن سليمان نبيّ كبير، فلم كان لديه هذا البناء الفائق والتزيّن الرائق... والصرح الممرد والبساط الممهّد!.. وصحيح أنّه كان حاكماً مبسوط اليد، إلاّ أن الأنسب أن يكون له بساط مألوف كسائر الأنبيآء. إلاّ أنّه، ما يمنع أن يُري سليمان مَلكة سبأ التي كانت ترى قدرتها وعظمتها بالعرش والتاج والقصر العظيم والزينة.. يريها هذا المشهد لتذعن لأمره، ولتحتقر ما عندها؟! وهذه نقطة انعطاف في حياتها لتعيد النظر في ميزان القيم ومعيار الشخصية! ما يمنعه - بدلاً من أن يغير جيشاً لجباً فيسفك الدماء - أن يجعل فكر ملكة سبأ حائراً مبهوتاً بحيث لم تكن تتوقع ذلك أصلا... خاصة أنّها كانت امرأة تهتم بهذه الاُمور والتشريفات!. ولا سيما أنّ أغلب المفسّرين صرحوا بأن سليمان أمر أن يبنى مثل هذا الصرح والقصر قبل أن تصل ملكة سبأ إلى الشام، وكان هدفه أن يُريها قدرته لتذعن لأمره وتسلم له... وهذا الأمر يدلّ على أن سليمان(ع) كان يتمتع في سلطانه بقدرة عظيمة من حيث القوّة الظاهرية وُفق بها للقيام بمثل هذا العمل!. وبتعبير آخر: إنّ هذه النفقات المالية إزاء أمن منطقة واسعة، وقبول دين الحق، والوقاية عن الإنفاق المفرط للحرب - لم تكن أمراً مسرفاً. ولذلك حين رأت مَلكة سبأ هذا المشهد الرائع (قالت ربّ إنّي ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله ربّ العالمين). لقد كنت في ما مضى أسجد للشمس وأعبد الأصنام، وكنت غارقة في الزينة والتجميل، وكنت أتصور أنّي أعلى الناس في الدنيا. أمّا الآن فإنّني أفهم أنّني ضعيفة جدّاً وهذه الزخارف والزبارج لا تروي ظمأ الإنسان ولا تبلّ غليل روحه!. ربّاه... أتيت اليك مسلمة مع سليمان نادمة عن سالف عمري، خاضعة عنقي إليك. الطريف هنا أنّها تقول: أسلمت مع سليمان، فتستعمل كلمة (مع) ليتجلّى أن الجميع إخوة في السبيل إلى الله! لا كما يعتاده الجبابرة إذ يتسلط بعضهم على رقاب بعض، وترى جماعة أسيرة في قبضة آخر. فهنا لا يوجد غالب ومغلوب، بل الجميع - بعد قبول الحق - في صف واحد!. صحيح أن ملكة سبأ كانت قد أعلنت إيمانها قبل ذلك أيضاً، لأنّنا سمعنا عن لسانها في الآيات آنفة الذكر (وأوتينا العلم من قبلها وكنّا مسلمين). إلاّ أن إسلام الملكة هنا وصل إلى أوجه، لذلك أكّدت إسلامها مرّة أُخرى. إنها رأت دلائل متعددة على حقانية دعوة سليمان. فمجيء الهدهد بتلك الحالة الخاصّة! وعدم قبول سليمان الهدية الثمينة المرسلة من قبلها. وإحضار عرشها في فترة قصيرة من مدى بعيد. وأخيراً مشاهدة قدرة سليمان الاعجازية، وما لمسته فيه من أخلاق دمثة لا تشبه أخلاق الملوك! بحثان 1- عاقبة أمر ملكة سبأ كان هذا كل ما ورد في القرآن المجيد عن ملكة سبأ إذ آمنت أخيراً ولحقتبالصالحين... لكن هل عادت إلى وطنها بعد إيمانها، وواصلت حكمها من قبل سليمان، أو بقيت عند سليمان و تزوجت منه؟! أو تزوجت من أحد ملوك اليمن المشهورين باسم "تُبّع"؟هذه الاُمور لم يشر إليها القرآن الكريم، لأنّها لا علاقة لها بالهدف الأصلي الذي يبتغيه القرآن من المسائل التربوية!... إلاّ أن المؤرّخين والمفسّرين كلاًّ منهم اختار رأياً، ولا نجد ضرورة في الخوض في ذلك، وإن كان المشهور - طبقاً لما قاله أغلب المفسّرين - أنّها تزوّجت من سليمان نفسه(5). إلاّ أنّه ينبغي أن نذّكر بهذا الأمر المهم، وهو أنّه وردت أساطير كثيرة حول سليمان وجنوده وحكومته وخصوصيات ملكة سبأ. وجزئيات حياتها أيضاً، ممّا يصعب على عامة الناس تمييزها من الحقائق التاريخية، وربّما يُغشّي هذه الحقائق التاريخية. ظلٌّ مظلم من الخرافات يشوه وجهها الناصع.. وهذه هي نتيجة الخرافات المتداخلة في الحقائق التي ينبغي أن تُراقب مراقبة تامّة!. 2- خلاصة عامة عن حياة سليمان ما ورد عن سيرة سليمان وحالاته في الثلاثين آية آنفة الذكر، يكشف عن مسائل كثيرة، قرأنا قسماً منها في أثناء البحث، ونشير إلى القسم الآخر إشارة عابرة: 1 - إنّ هذه القصّة تبدأ بالحديث عن موهبة (العلم الوافر) التي وهبها الله لسليمان بن داود، وتنتهي بالتسليم لأمر الله، وذلك التوحيد أساسه العلم أيضاً. 2 - هذه القصّة تدل على أن غياب طائر أحياناً (في تحليقة استثنائية) قد يغير مسير تأريخ أُمّة، ويجرها من الفساد إلى الصلاح، ومن الشرك إلى الإيمان... وهذا مثل عن بيان قدرة الله، ومثل من حكومة الحق!. 3 - إنّ هذه القصّة تكشف عن أن نور التوحيد يشرق في جميع القلوب، حتى الطائر الذي يبدو ظاهراً أنّه صامت، فإنّه يخبر عن أسرار التوحيد العميقة!. 4 - ينبغي من أجل لفت نظر الإنسان إلى القيمة الواقعية له وهدايته نحو الله، أن يُدمّر غروره وكبرياؤه أولا.. ليُماط عن وجه ستار الظلام، كما فعل سليمان، فدمر غرور مَلكة سبأ وذلك بإحضار عرشها، وادخالها الصرح الممرد الذي حسبته لجةً. 5 - إنّ الهدف النهائي في حكومة الأنبياء ليس التوسع في رقعة الأرض، بل الهدف هو ما قرأناه في آخر آية من الآيات محل البحث، وهو أن يعترف الظالم بذنبه، وأن يسلم لربّ العالمين، ولذلك فإن القرآن ختم بهذه "اللطيفة" القصّة المذكورة. 6 - إنّ روح الإيمان هي التسليم، لذلك فقد أكّد سليمان عليه في كتابه إلى مَلكة سبأ. 7 - قد يكون بعض الناس مع ما لديه من قدرة عظيمة لا ترقى إليه قدرة الآخرين، محتاجاً إلى موجود ضعيف كالطائر مثلا، لا إلى علمه فحسب، بل قد يستعين بعلمه أيضاً، وقد تحقّره نملة بما هي عليه من ضعف! 8 - إنّ نزول هذه الآيات في مكّة حيث كان المسلمون تحت نير العدو، وكانت الأبواب موصدة بوجوههم، هذا النّزول كان له مفهومه الخاص. وهو تقوية معنويات المسلمين وتسلية قلوبهم، واحياء أملهم بلطف الله ورحمته والإنتصارات المقبلة. ﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ﴾ القصر أو صحن الدار وكان من زجاج أبيض وأجري تحته ماء فيه سمك فجلس في صدره على سريره قصد به تهويل مجلسه ﴿فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً﴾ ماء غامرا ﴿وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا﴾ لتخوضه فوجدها أحسن الناس ساقا وقدما إلا أنها شعراء فأمر الجن فعملت لها النورة ﴿قَالَ﴾ لها ﴿إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ﴾ مملس ﴿مِّن قَوَارِيرَ﴾ من زجاج ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾ بعبادة الشمس ﴿وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ فتزوجها وأقرها على ملكها وكان يزورها كل شهر مرة فيقيم عندها ثلاثة أيام.