التّفسير
حركة الأرض إحدى معاجز القرآن العلميّة:
مرّة أُخرى تتحدث هذه الآيات عن مسألة المبدأ والمعاد، وآثار عظمة الله، ودلائل قدرته في عالم الوجود، وحوادث القيامة، فتقول: (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً) وفي ذلك علائم ودلائل واضحة على قدرة الله وحكمته لمن كان مستعداً للايمان (إنّ في ذلك لآيات لقوم يؤمنون).
وهذه ليست أوّل مرّة يتحدث فيها القرآن عن الليل والنهار الحيويّة، ونظامي النور والظلمة، كما أنّها ليست آخر مرّة أيضاً.. وذلك لأنّ القرآن كتاب تعليم وتربية، وهو يهدف إلى بناء الشخصية الإنسانية... ونحن نعرف أن أصول التعليموالتربية تقتضي أحياناً أن يتكرر الموضوع في "فواصل" مختلفة، وأن يذكّر الناس به ليبقى في الذهن كما يقال.
فالسكن أو الهدوء الذي يحصل من ظلمة الليل، مسألة علمية وحقيقة مسلّم بها، فسُدل الليل ليست أسباباً إجبارية لتعطيل النشاطات اليومية فحسب، بل لها أثر عميق على سلسلة الأعصاب في الإنسان وسائر الحيوانات، ويجرها إلى الراحة والنوم العميق، أو كما يعبر القرآن عنه بالسكون!.
وكذلك العلاقة بين ضوء النهار والسعي والحركة التي هي من خصائص النور من الناحية العلمية - أيضاً - ولا مجال للتردد فيها.
فنور الشمس لا يضيء محيط الحياة ليبصر الإنسان به مأربه فحسب، بل يوقظ جميع ذرات وجود الإنسان ويوجهه إلى الحركة والنشاط!.
فهذه الآية توضح جانباً من التوحيد الرّبوبي، ولما كان المعبود الواقعي هو ربّ "عالم الوجود" ومدبّره، فهي تشطب بالبطلان على وجوه الأوثان!... وتدعو المشركين إلى إعادة النظر في عبادتهم.
وينبغي الإلتفات إلى هذه اللطيفة، وهي أنّ على الإنسان أن يجعل نفسه منسجماً مع هذا النظام، فيستريح في الليل ويسعى في النهار، ليبقى نشطاً صحيحاً دائماً... لا كالمنقاد لهواه الذي يطوي الليل يقظاً ساهراً وينام النهار حتى الظهر!.
والطريف أن كلمة "مبصر" نسبت إلى النهار ووصف بها، مع أنّها وصف للإنسان في النهار، وهذا نوع من التأكيد الجميل للإهتمام بالنشاط في النهار، كما يوصف الليل أحياناً بأنه "ليل نائم" (1).
وهذا التفاوت في التعبير في الآية، هو لبيان فائدة الليل والنهار، إذ جاء في شأن الليل (لتسكنوا فيه) وعبر عن النهار بـ(مبصر) فلعل هذا الإختلاف في التعبير إشارة إلى أن الهدف الأصلي من وجود الليل هو السكون والهدوء، والهدف من الضوء والنهار ليس النظر فحسب، بل رؤية الوسائل الموصلة إلى مواهب الحياة والإستمتاع بها "فلاحظوا بدقة".
وعلى كل حال، فهذه الآية وإن كانت تتكلم مباشرةً عن التوحيد وتدبير عالم الوجود، إلاّ أنّها ربّما كانت إشارة لطيفة إلى مسألة المعاد، لأنّ النوم بمثابة الموت، واليقظة بمثابة الحياة بعد الموت!.
﴿أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ﴾ خلقناه ﴿لِيَسْكُنُوا فِيهِ﴾ بالنوم والدعة ﴿وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾ أي ليتبصروا فيه ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ دلالات لهم على التوحيد والبعث والنبوة إذ تعاقب النور والظلمة إنما يتم بقدرة قاهر ويشبه النوم بالموت والانتباه بالبعث ولأن من جعل ذلك لبعض مصالحهم كيف يهمل ما هو مناط جميعها من بعث رسول إليهم.