التفسير
عودة موسى إلى حضن أُمّه:
في هذه الآيات تتجسدُ مشاهد جديدة.. فأمُّ موسى التي قلنا عنها: إنّها ألقت ولدها في أمواج النيل، بحسب ما فصّلنا آنفاً.. اقتحم قلبها طوفان شديدٌ من الهمّ على فراق ولدها، فقد اصبح مكان ولدها الذي كان يملأ قلبها خالياً وفارغاً منه.
فأوشكت أن تصرخ من أعماقها و تذيع جميع أسرارها، لكن لطف الله تداركها، وكما يعبّر القرآن الكريم (وأصبح فؤاد أمّ موسى فارغاً إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين).
"الفارغ" معناه الخالي، والمقصود به هنا أن قلب أم موسى أصبح خالياً من كل شيء إلاّ من ذكر موسى.. وإن كان بعض المفسّرين يرون أن المقصود به هو خلوّ القلب من الهمّ والغمّ، أو أنّه خال من الإلهام والبشائر التي بشرت بها أُم موسى من قبل، ولكن مع الإلتفات لهذه الجمل والتدقيق فيها يبدوا هذا التّفسير غير صحيح.
وطبيعيّ تماماً أنّ أُمّاً تفارق ولدها بهذه الصورة يمكن أن تنسى كل شيء إلاّ ولدها الرضيع، ويبلغ بها الذهول درجةً لا تلتفت معها إلى ما سيصيبها وولدها من الخطر لو صرخت من أعماقها وأذاعت أسرارها.
ولكن الله الذي حمّل أُم موسى هذا العبء الثقيل ربط على قلبها لتؤمن بوعد الله، ولتعلم أنّه بعين الله، وأنّه سيعود إليها وسيكون نبيّاً.
كلمة "ربطنا" من مادة "ربط" ومعناها في الأصل شدّ وثاق الحيوان أو ما أشبهه بمكان ما ليكون محفوظاً في مكانه، ولذلك يدعى هذا المحلّ الذي تربط فيه الحيوانات بـ "الرباط" ثمّ توسعوا في اللغة فصار معنى الربط: الحفظ والتقوية والإستحكام، والمقصود من "ربط القلب" هنا تقويته.. أي تثبيت قلب أم موسى، لتؤمن بوعد الله وتتحمل هذا الحادث الكبير.
﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى﴾ لما سمعت بالتقاطه ﴿َارِغًا﴾ من كل شيء سوى همه أو من العقل لدهشتها أو من الحزن لوثوقها بوعد الله ﴿إِن﴾ المخففة يعني أنها ﴿كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ﴾ لتظهر بأنه ابنها جزعا وتضجرا ﴿لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا﴾ سكناه بالصبر ﴿لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ المصدقين بوعدنا وجواب لو لا دل عليه ما قبلها.