وعلى كل حال فإن موسى (دخل المدينة على حين غفلة من أهلها).
فما هي المدينة المذكورة في الآية المتقدمة؟ لا نعرفها على وجه التحقيق.. لكن الاحتمال القوي أنّها عاصمة مصر.. وكما يقول بعض المفسّرين فإنّ موسى(ع) على أثر المشاجرات بينه وبين فرعون، ومخالفاته له ولسلطته التي كانت تشتدّ يوماً بعد يوم حتى بلغت أوجها، حُكم عليه بالتبعيد عن العاصمة.. لكنّه برغم ذلك فقد سنحت له فرصة خاصّة والناس غافلون عنه أن يعود إلى المدينة ويدخلها.
ويحتمل أيضاً، أنّ المقصود دخوله المدينة من جهة قصر فرعون.. لأنّ القصور يومئذ كانت تشاد على أطراف المدينة ليعرف الداخل إليها والخارج منها.
والمقصود من جملة (على حين غفلة من أهلها) هو الزمن الذي يستريح الناس فيه من أعمالهم، ولا تُراقب المدينة في ذلك الحين بدقّة، ولكن أي حين وأي زمن هو؟!
قال بعضهم: هو أوّل الليل، لأنّ الناس يتركون أعمالهم ويعطلون دكاكينهم ومحلاتهم ابتغاء الراحة والنوم، وجماعة يذهبون للتنزه، وآخرون لأماكن أُخرى.. هذه الساعة هي المعبر عنها بساعة الغفلة في بعض الرّوايات الإسلامية.
وهناك حديث شريف عن النّبي(ص) في هذا الشأن يقول: "تنفّلوا في ساعة الغفلة ولو بركعتين خفيفتين".
وقدورد في ذيل هذا الحديث الشريف هذه العبارة "وساعة الغفلة ما بين المغرب والعشاء" (2).
والحق أنّ هذه الساعة ساعة غفلة وكثيراً ما تحدث الجنايات والفساد والإنحرافات الأخلاقية في مثل هذه لساعة من أوّل الليل.. فلا الناس مشغولون بالكسب والعمل، ولا هم نائمون، بل هي حالة غفلة عمومية تغشى المدينة عادةً، وتنشط مراكز الفساد أيضاً في هذه الساعة.
واحتمل البعض أن ساعة الغفلة هي ما بعد نصف النهار، حيث يستريح الناس من أعمالهم استراحة مؤقتة، ولكن التّفسير الأوّل أقرب للنظر كما يبدو.
وعلى كل حال، موسى دخل المدينة، وهنالك واجه مشادّة ونزاعاً، فاقترب من منطقة النزاع (فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوّه).
والتعبير بـ "شيعته" يدل على أن موسى قبل أن يبعث كان له أتباع وأنصار وشيعة من بني إسرائيل، وربّما كان قد اختارهم لمواجهة فرعون وحكومته كنواة اساسية.
فلمّا بصر الإسرائيلي بموسى استصرخه (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوّه).
فجاءه موسى(ع) لاستنصاره وتخليصه من عدوّه الظالم.. الذي يقال عنه أنّه كان طباخاً في قصر فرعون، وكان يريد من الإسرائيلي أن يحمل معه الحطب إلى القصر، فضرب موسى هذا العدو بقبضة يده القوية على صدره، فهوى إلى الأرض ميتاً في الحال تقول الآية: (فوكزه موسى فقضى عليه)(3).
وممّا لا شك فيه، فإنّ موسى لم يقصد أن يقتل الفرعوني، ويتّضح ذلك من خلال الآيات التالية أيضاً.. ولا يعني ذلك أن الفراعنة لم يكونوا يستحقون القتل، ولكن لاحتمال وقوع المشاكل والتبعات المستقبلية على موسى وجماعته.
لذلك فإنّ موسى(ع) أسف على هذا الأمر (قال هذا من عمل الشيطان إنّه عدوّ مبين).
وبتعيبر آخر: فإنّ موسى(ع) كان يريد أن يبعد الفرعوني عن الرجل الإسرائيلي، وإن كان الفرعونيون يستحقون أكثر من ذلك.
لكن ظروف ذلك الوقت لم تكن تساعد على مثل هذا العمل، وكما سنرى فإن ذلك الأمر دعا موسى(ع) إلى أن يخرج من مصر إلى أرض مدين وحرمه من البقاء في مصر.
﴿وَدَخَلَ﴾ موسى ﴿الْمَدِينَةَ﴾ مصر ﴿عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا﴾ وقت القائلة أو ما بين العشاءين أو يوم عيدهم ﴿فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ﴾ إسرائيلي ﴿وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ﴾ قبطي يسخر الإسرائيلي بحمل حطب إلى مطبخ فرعون ﴿فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ﴾ طلب أن يغيثه بالنصر ﴿فَوَكَزَهُ مُوسَى﴾ ضربه بجمع كفه ﴿فَقَضَى عَلَيْهِ﴾ فقتله ﴿قَالَ هَذَا﴾ أي الأمر الذي وقع القتل بسببه ﴿مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ﴾ للإنسان ﴿مُّضِلٌّ﴾ له ﴿مُّبِينٌ﴾ بين الإضلال.