سبب النزول
نقل المفسّرون ورواة الأخبار روايات كثيرة و مختلفة في شأن نزول الآيات المتقدمة، والجامع المشترك فيها واحد، وهو إيمان طائفة من علماء اليهود والنصارى والأفراد الذين يتمتعون بقلوب طاهرة - بالقرآن ونبي الإسلام(ص).
فعن "سعيد بن جبير" أن هذه الآيات نزلت في سبعين قسّاً مسيحياً بعثهم النجاشي من الحبشة إلى مكّة للتحقيق والإطلاع على دين النّبي محمّد(ص)، فلمّاقرأ عليهم نبيّ الإسلام سورة "يس" دمعت عيونهم شوقاً وأسلموا(1).
وقال بعضهم: هذه الآيات نزلت في نصارى نجران "مدينة في شمال اليمن" جاءوا إلى النّبي فسمعوا آيات القرآن فآمنوا به(2).
وقال آخرون: بل نزلت في النجاشي وقومه.(3)
كما يرى بعضهم أنّها نازلة في "سلمان الفارسي" وجماعة من علماء اليهود، كعبد الله بن سلام وتميم الداري والجارود العبدي وأضرابهم(4).
وأخيراً فإنّ بعضهم يرى أنّ الآيات تشير إلى أربعين عالماً مسيحياً من ذوي الضمائر حيّة والنيرة، جاء اثنان وثلاثون منهم مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة، وثمانية آخرون من الشام، من بينهم "بحيرا"الراهب إلى النّبي(ص)فأسلموا.(5)
وبالطبع فإنّ الرّوايات الثلاث تتناسب مع نزول الآيات في مكّة، كما أنّها تدعم قول من يرى بأن جميع آيات هذه السورة مكية.
ولكن الرواية الرابعة والرواية الخامسة تدلاّن على أن هذه الآيات الآنفة نزلت بالمدينة استثناءً، كما أنّهما تدعمان قول القائلين على أنّ الآيات المتقدمة مدنية لا مكية.
وعل كل حال فإن هذه الآيات "شواهد بليغة" تدل على أن جماعة من علماء أهل الكتاب أعلنوا إسلامهم حين سمعوا آيات القرآن... لأنّه لا يمكن لنبي الإسلام(ص) أن يقول مثل هذا.
ولم يكن أحد من أهل الكتاب قد آمن به بعد لأنّ المشركين كانوا ينهضون فوراً ويقومون بالصياح والضجيج لتكذيب النّبي(ص).
التّفسير
طلاب الحق من أهل الكتاب آمنوا بالقرآن:
حيث أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن حجج المشركين الواهية أمام الحقائق التي يقدّمها القرآن الكريم، فإنّ هذه الآيات محل البحث تتحدث عن القلوب المهيّأة لقبول قول الحق والتي سمعت هذه الآيات اهتدت الإسلام وبقي أصحابها متمسكين بالإسلام أوفياء له في حين أنّ قلوب الجاهليين المظلمة لم تتأثر بها.
يقول القرآن في هذا الصدد: لقد انزلنا لهم آيات القرآن تباعاً (ولقد وصّلنا لهم القول لعلّهم يذكرون)(6).
هذه الآيات نزلت عليهم نزول المطر المتصلة قطراته وجاءت الآيات على أشكال متنوعة، وكيفيات متفاوتة، فتارة تحمل الوعد بالثواب، وتارة الوعيد بالنّار، وأُخرى الموعظة والنصيحة، وأُخرى تنذر وتهدد.
وأحياناً تحمل استدلالات عقلية، وأحياناً تحمل قصص الماضين وتأريخهم المليء بالعبر، وخلاصة كاملة من الأحداث المتجانسة التي يؤمن بها أي قلب فيه أقل استعداد للإيمان، حيث أنّها تجذب القلوب إليها... إلاّ أن عمي القلوب لم يذعنوا لها.
إلاّ أنّ (اليهود والنصارى) (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون).
لأنّهم يرونه منسجماً مع ما ورد في كتبهم السماوية من علامات ودلائل!.
ومن الطريف هنا أنّهم كانوا جماعة من "أهل الكتاب"، إلاّ أن الآيات المتقدمة تحدثت عنهم بأنّهم "أهل الكتاب" دون قيد أو تبعيض أوأي شيء آخر، ولعلها تشير إلى أنّهم أهل الكتاب حقّاً، أمّا سواهم فلا.
﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ﴾ أنزلنا عليهم القرآن متصلا بعضه في إثر بعض ليتصل الذكر أو متواصلا حججا وعبرا ومواعيد ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ إرادة أن يتعظوا.