التفسير
الهداية بيد الله وحده!..
بالرغم من أن بحوثاً كثيرة وروايات وردت في الآية الأُولى من هاتين الآيتين المتقدمتين وشأن نزولها، إلاّ أنّها - كما سنرى - روايات غير معتبرة ولا قيمة لها، حتى كأنّها رويت لأغراض ومقاصد خاصّة، ولذلك رأينا أن نفسّر الآية من القرآن نفسه ثمّ نعالج الرّوايات المشكوكة أو المجعولة.
ومع الإلتفات إلى أن الآيات السابقة كانت تتحدث عن طائفتين: طائفة من مشركي أهل مكّة المعاندين، كان رسول(ص) شديد الإصرار على هدايتهم، لكنّهم لم يهتدوا ولم يذعنوا لنور الإيمان.
وطائفة من أهل الكتاب والأفراد البعيدين عن مكّة، تلقوا هداية الله برحابة صدر وبعشق وضحوا في سبيل الإسلام، وآثرواعلى أنفسهم مصلحة الإسلام، ولم يكترثوا بعناد قومهم الجاهلين الأنانيين، ولم يستوحشوا من الضغوط والعزلة وما إلى ذلك!.
فمع الإلتفات إلى كل هذه الأُمور، نلاحظ أن الآية الأُولى من هاتين الآيتين تكشف الستار عن هذه الحقيقة فتقول: (إنّك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين).
فالله يعلم من هم الجديرون بالإيمان.. وأيّة قلوب تطلب الحقّ وهو يعرف العاشقين له.
أجل، هو يعرف هؤلاء ويوفقهم بلطفه ليسيروا نحو الإيمان.
أمّا الذين أظلمت قلوبهم وساءت سيرتهم وعادوا الحق في الخفاء ونهضوا بكل ماعندهم من قوة بوجه رسل الله، وقد تلوثت قلوبهم في حياتهم إلى درجة لم يكونوا جديرين بنور الإيمان فالله سبحانه لا يضع مصباح التوفيق في طريقهم أبداً.
إذن، وبناءً على ما تقدم، ليس المقصود من الهداية"إراءة الطريق"، لأنّ إراءة الطريق هي من وظيفة النّبي(ص)، وتشمل جميع الناس دون استثناء، بل المقصود من الهداية هنا هو "الإيصال للمطلوب والهدف"، والإيصال إلى المطلوب وإلى الهدف هو بيد الله وحده، الذي يغرس الإيمان في القلوب، وليس هذا العمل اعتباطاً ودون حساب، فهو تعالى ينظر إلى القلوب المهيأة والمستعده ليهبها نور السماء!
وعلى كل حال، فإنّ هذه الآية بمثابة التسلية والتثبيت لقلب النّبي ليطمئن إلى هذه الحقيقة، وهي إنّه لا إصرار المشركين وعنادهم وإن كانوا من أهل مكّة، ولا إيمان أهل الحبشة ونجران وغيرهما أمثال سلمان الفارسي وبحيرا الراهب من دون دليل وسبب.
فعليه أن لا يكترث لعدم إيمان الطائفة الأولى، فإن الله يقذف نوره فيالقلوب المهيأة للنور ويبسط عليها خيمته!.
ونظير هذا المضمون كثير في آيات القرآن!.
إذ نقرأ في الآية (272) من سورة البقرة قوله تعالى: (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء).
وفي الآية (37) من سورة النمل (أن تحرص على هداهم فإنّ الله لا يهدي من يُضلّ).
وفي الآية (43) من سورة يونس (أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون).
كما نقرأ أيضاً في الآية (رقم 4) من سورة إبراهيم ما هو بمثابة القانون العام (فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم).
فالآية الأخيرة تدلّ دلالة واضحة على أن المشيئة الإلهية في شأن هاتين الطائفتين "جماعة الهدى وجماعة الضلال" ليست دون حساب، بل هي طبقاً للجدارة واللياقة وسعي الأفراد أنفسهم... فالله يهب توفيقه على هذا الأساس، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ويسلب الهدى ممن يشاء فيضلون السبيل.
﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ لا تقدر على اللطف المقرب له إلى الإيمان ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء﴾ بلطفه ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ القابلين للطف.