التفسير
الثّري الاسرائيلي البخيل:
جاء تفصيل قصّة موسى(ع) العجيبة ومواجهاته ومواقفه مع فرعون في قسم كبير من الآيات السابقة في هذه السورة.. وذكرنا الأقوال فيها، وكان الكلام إلى حد ما كافياً عليها.
وفي القسم الآخر من آيات هذه السورة، وقع الكلام على مواجهة بني إ سرائيل مع رجل ثري منهم يدعى "قارون".
قارون هذا كان مظهراً للثراء المقرون بالكبر والغرور والطغيان.
وأساساً، فإنّ موسى(ع) واجه في طول حياته ثلث قوى استكبارية طاغوتية:
1 - "فرعون" الذي كان مظهراً للقوّة "والقدرة في الحكومة".
2 - "قارون" الذي كان مظهراً للثروة والمال!
3 - "السامري" الذي كان مظهراً للنفاق والصناعة.
وبالرغم من أنّ أهم مواجهات موسى(ع) هي مواجهته لفرعون و"حكومته" إلاّ أَنّ مواجهتيه الأخيرتين لهما أهميّة كبيرة أيضاً، وفيهما دروس ذات عبر ومحتوى كبير!.
المعروف أن "قارون" كان من أرحام موسى و أقاربه "ابن عمه أو ابن خالته" وكان عارفاً بالتوراة، وكان في بداية أمره مع المؤمنين، إلاّ أنّ غرور الثروة جرّه إلى الكفر ودعاه إلى أن يقف بوجه موسى(ع) وأماته ميتة ذات عبرة للجميع، حيث نقرأ شرح ذلك في الآيات التالية:
يقول القرآن في شأنه أوّلا: (إنّ قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم)وسبب بغيه وظلمه إنّه كان ذا ثروة عظيمة، ولأنّه لم يكن يتمتع بايمان قوي وشخصية متينة فقد غرّته هذه الثروة الكبيرة وجرّته إلى الإنحراف والإستكبار.
يصف القرآن ما عنده من ثروة فيقول: (وآتيناه من الكنوز ما إنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوّة).
"المفاتح" جمع "مفتح" على زنة "مكتب" معناه المكان الذي يدخّر فيه الشيء، كالصندوق الذي يحفظ فيه المال، وهو ما يسميه بعض التجار بـ "القاصة".
فيكون المعنى: إنّ قارون كان ذا مال كثير ووفير من الذهب والفضّة، بحيثكان يصعب حمل صناديقها على الرجال الأشداء (أولي القوّة).
ومع ملاحظة كلمة "عصبة" التي تعني الجماعة المُتآزرة يداً بيد على الأمر المهم، يتّضح حجم الذهب والفضة والمعادن الثمينة التي كانت عند قارون، قال بعضهم: العصبة هي من عشرة رجال إلى أربعين رجلا.
وكلمة "تنوء" مشتقّة من "النوء" ومعناه القيام بمشقّة وثقل، وتستعمل في حمل الاثقال التي لها ثقل ووزن كبير، بحيث لو حملها الإنسان لمال إلى أحد جانبيه!.
وهذا الذي بيّناه في "المفتاح" اتفق عليه جماعة من المفسّرين.
في حين أنّ بعضهم يرى أنّها جمع "مفتح" على زنة "مِنْبَر" وهو المفتاح الذي تفتح به الخزائن، يقولون: إن خزائن قارون كانت من الكثرة إلى درجة إن مفاتيحها ينوء بحملها الرجال الأشداء.
والذين ذهبوا إلى هذا المعنى أتعبوا أنفسهم كثيراً في توجيهه، إذ كيف يمكن تصور عدد هذه "المفتاح" بشكل هائل حتى لا يمكن حملها إلاّ بمشقّة وعناء بالغين.. وعلى كل حال فإنّ التّفسير الأوّل أقرب للنظر وأوضح بياناً.
لأنّنا وإن سلّمنا على أن "مِفتَح، بكسر الميم" تعني آلة الفتح أي "المفتاح" فإنّ أهل اللغة ذكروا لهذا الوزن (مِفتَح) معاني أُخرى منها "الخزانة" التي يجمع فيها المال، فالمعنى الأوّل أقرب للواقع وبعيد عن المبالغة.
فلا ينبغي الخلط بين "المفاتح" التي تعني الخزائن.
و"المفاتيح" التي تعني آلات الفتح، وهي جمع "مفتاح"(1).
فلنتجاوز هذا البحث لنرى ما قال بنوا إسرائيل لقارون، يقول القرآن في هذا الصدد: (إذ قال له قومه لا تفرح إنّ الله لا يحبّ الفرحين (2)).
﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ كرر توبيخهم به إيذانا بأن لا شيء أسخط لله من الإشراك به.