لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
أمّا آخر آية - محل البحث - فتحكى عن التبدل العجيب لأولئك الذين كانوا يتفرجون على استعراض قارون بالأمس ويقولون: ياليت لنا مثل ما أوتي قارون، وما شابه ذلك!. وإذا هم اليوم يقولون: واهاً له، فإنّ الرزق بيد الله (فأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الزرق لمن يشاء من عباده ويقدر). لقد ثبت عندنا اليوم أن ليس لأحد شيء من عنده! فكلّ ما هو موجود فمن الله، فلا عطاؤه دليل على رضاه عن العبد، ولا منعه دليل على تفاهة عبده عنده!. فالله تعالى يمتحن بهذه الأموال والثروة عباده أفراداً وأقواماً، ويكشف سريرتهم ونيّاتهم. ثمّ أخذوا يفكرون في ما لو أجيب دعاؤهم الذي كانوا يصرون عليه، وأعطاهم الله هذا المال، ثمّ هووا كما هوى قارون، فماذا يكون قد نفعهم المال؟ لذلك شكروا الله على هذه النعمة وقالوا: (لولا أن منّ الله علينا لخسف بنا ويكأنّه لا يفلح الكافرون). فالآن نرى الحقيقة بأعيننا، وعاقبة الغرور والغفلة ونهاية الكفر والشهوة!. ونعرف أن أمثال هذه الحياة المثيرة للقلوب بمظاهرها الخداعة، ما أوحشها! وما أسوأ عاقبتها!. ويتّضح من الجملة الأخيرة في هذه القصّة - ضمناً - أنّ قارون المغرور مات كافراً غير مؤمن، بالرغم من أنّه كان يعدّ عارفاً بالتوراة قارئاً لها، وعالماً من بني إسرائيل ومن أقارب موسى. بحوث 1- نماذج قارونية بالأمس واليوم! قصّة قارون - هذا الثري المغرور - التي ذكرها القرآن في سبع آيات بينات - بأسلوب جذّاب - تكشف الحجب عن حقاق كثيرة في حياة الناس! هذه القصّة النّيرة توضح هذه الحقيقة، وهي أن غرور الثروة ونشوتها قد ينجر بهما الإنسان - أحياناً - إلى أنواع الجنون.. جنون إظهار الثروة وعرضها.. ولفت أنظار الآخرين.. إلى التلذذ من تحقير الفقراء والمساكين. كما أن هذا الغرور وهذه النشوة والعشق المطلق للفضة والذهب، قد تكون سبباً لأنّ يجرأ الإنسان أحياناً إلى ارتكاب أقبح الذنوب وأخسها، كالإساءة إلى النّبي ومناهظة الحق والحقيقة.. واتهام أطهر الأفراد، واستخدام الثروة لإنفاقها على الفواحش في سبيل الوصول إلى الغرض المطلوب. أن الغرور والنشوة الناشئين من كثرة الثروة، لا يسمحان للإنسان أن يسمع نصيحة الآخرين، ويستجيب لمن يريد له الخير!. وهؤلاء المغرورون الجهلة يتصورون أنّهم أعلم الناس وأكثرهم اطلاعاً، وفي اعتقادهم أن ثروتهم التي وقعت في أيديهم، وربّما تقع عن طريق الغصب أحياناً، هي دليل على عقلهم وذكائهم... وأن جميع الناس جهلة كما يظنون، وأنّهم - وحدهم - العلماء فحسب!. ويبلغ بهم الامر حدّاً أن يظهروا قدرتهم أمام الخالق، وكأنّهم مستقلّون، ويدّعون أنّ ما وصلهم هو عن طريق ابتكارهم وذكائهم، واستعدادهم وخلاّقيتهم ومعرفتهم التي لا نظير لها! ورأينا عاقبة هؤلاء المغرورين المنحرفين، وكيف ينتهون، وإذا كان قارون وأتباعه وثروته جميعاً قد خسفت بهم الأرض فهووا إلى قعرها، فإنّ الآخرين يفنون بأشكال مختلفة.. وأحياناً تبتلع الأرض حتى ثروتهم العظيمة بشكلآخر.. أو يبدّلون ثروتهم الكبيرة بالقصور والبساتين والأراضي الشاسعة ثمّ لا يستفيدون منها أبداً.. وقد يشترون الأراضي الموات والبائرة، على أمل تقسيمها صغيرة لتباع كل قطعة بسعر باهض!... وهكذا تبتلع الأرض ثروتهم. أمثال هؤلاء الأفراد من سقيمي العقول حين لا يجدون طريقاً لصرف ثروتهم العظيمة يتوجهون إلى القِيم الخيالية... وينفقون أموالهم على الخزف المتكسّر على أنّه من التراث القديم كالأكواز والأقداح الخزفية، والطوابع، والأوراق النقدية المتعلقة بالسنوات القديمة، ويحافظون عليها في مكان حريز من بيوتهم على أنّها أغلى التحف، وهي لا تستحق أن توضع إلاّ في المزابل لو نظرنا إليها بعين البصيرة والاعتبار! أُولئك الذين يحيون مثل هذه الحياة الناعمة الخيالية قد يتفق أن يرى في مدينتهم أو في مناطقهم - وأحياناً في جيرانهم - من لا عهد له بالشبع، ويسهرون لياليهم على الطوى جائعين، ومن العجيب أنّهم يرون هذه الحالة فلا تهتز لها ضمائرهم، ولا يتأثر لأجلها وجدانهم!. كما يتفق لحيواناتهم أن تعيش حياة الرفاه، وتستفيد من رعاية الأطباء والأدوية الخاصّة! في حين أن أناساً محرومين يعيشون في ظروف صعبة وسيئة إلى جوارهم، وربّما يرقدون في المستشفى، ويئنون ولا من مصرخ لهم، ولا من علاج لمرضهم!. جميع هذه البحوث تنطبق أحياناً على بعض الأفراد في مجتمع ما، وقد تنطبق على دولة معينة قبال دول الدنيا كلها، أي قد نجد دولة قارونية مستكبرة أمام الدول الضعيفة، كما نلاحظ في العصر الحاضر في شأن الدول الإستكبارية كأمريكا وكثير من الدول الأوروبية. لقد هيأ هؤلاء حياة التنعّم والرفاه - في أرقى صورها - باستثمار أبناء العالم الثّالث والدول الفقيرة العزلاء... بحيث أنّهم يرمون فضلات طعامهم في المزابل، ولو قدر أن تجمع بصورة صحيحة، لأمكن عندئذ تغذية الملايين المحرومة الجائعة من هذه المواد الغذائية الإضافية. وما نقوله من أن بعض الدول فقيرة هي في الحقيقة ليست دولا فقيرة، بل هي دول مُنيت بسرقة خيراتها وأغير عليها... وربّما كان لديها أغلى المصادر والمعادن تحت الأرض، لكن هؤلاء المغيرين ينهبون هذه الخيرات ويتركون أهلها على الأرض السوداء الجرداء. فهؤلاء القارونيون يشيدون قواعد قصورهم الظالمة على أكواخ المستضعفين المهدّمة.. وإذا لم يتّحد المستضعفون يداً بيد ليقذفوا بالمستكبرين إلى قعر الأرض كما فعل بقارون، فإنّ حالة الدنيا ستبقى هكذا. فأُولئك يشربون الخمور ويضحكون منتشين، وهؤلاء يجلسون على بساط الفقر والحرمان باكين. 2 - منْ أين جاء قارون بهذه الثروة العريضة؟ الطريف أنّنا نقرأ في الآيتين (23) و (24) من سورة المؤمن ما نستفيد منه بوضوح أنّ رسالة موسى(ع) كانت من البداية لمبارزة ثلاثة أشخاص! "فرعون"، ووزيره "هامان"، و"قارون" الثري المغرور. (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذّاب). ونستفيد من النصّ القرآني المتقدم أن قارون كان من جماعة فرعون، وكان على خطه; كما أنّنا نقرأ في التواريخ أنّه كان ممثلا لفرعون في بني إسرائيل من جهة(1)، وأنّه كان أمين الصندوق عند فرعون، والمسؤول على خزائنه من جهة أُخرى(2). ومن هنا تتّضح هويّة قارون.. فإنّ فرعون من أجل إذلال بني إسرائيل وسلب أموالهم اختار رجلا منافقاً منهم، وأودعه أزمّة أمورهم، ليستثمر أموالهم لخدمة نظامه الجبار، وليجعلهم حفاةً عراة، ويكتسب من هذه الطريقة ثروة ضخمة منهم!. والقرائن تشير إلى أنّ مقداراً من هذه الثروة العظيمة وكنوز الأموال بقيت بعد هلاك فرعون عند قارون، ولم يطلع موسى(ع) - إلى تلك الفترة - على مكان الأموال لينفقها على اتباعه الفقراء. وعلى كل حال، فسواءً كانت هذه الثروة قد حصل عليها قارون في عصر فرعون، أو حصل عليها عن طريق الإغارة على خزائنه بعد هلاكه، أو كما يقول البعض قد حصل عليها عن طريق علم الكيمياء أو التجارة... أو معرفته بأصول استثمار أموال المستضعفين. مهما يكن الأمر فإنّ قارون آمن بموسى بعد انتصار موسى على فرعون، وبدّل وجهه بسرعة، وأصبح من قرّاء التوراة وعلماء بني إسرائيل... في حين أنّ من البعيد أن تدخل ذرة من الإيمان في مثل قلب هذا المنافق!. وأخيراً فحين أراد موسى(ع) أن يأخذ من قارون زكاة المال، خدع به الناس، وعرفنا كيف كانت عاقبته. 3 - موقف الإسلام من الثّروة! لا ينبغي أن نستنبط من المسائل التي ذكرناها آنفاً أنّ الإسلام يقف من الثروة موقفاً سلبياً، وأنّه يخالف خط الثراء، ولا ينبغي أن نتصور أنّ الإسلام يريد حياة الفقر والفقراء، ويعدّ حياة الفقر من الكلمات المعنوية!. بل على العكس من ذلك، فإنّ الإسلام يعد الثروة عاملا مهمّاً نحو الآخرة! وقد عبّر القرآن عن المال بالخير في الآية (180) من سورة البقرة (إن تركخيراً)أي مالا. ونقرأ في حديث عن الإمام الباقر(ع) في هذا الصدد "نعم العون الدنيا على طلب الآخرة" (3). بل حتى الآيات - محل البحث - التي تذم قارون أشدّ الذم، لأنّه اغتر بالمال، هي شاهد بليغ على هذا الموضوع.. غاية ما في الأمر أنّ الإسلام يقبل بالثروة التي بواسطتها تبتغى الدار الآخرة، كما قال علماء بني إسرائيل لقارون (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة). والإسلام يرضى بالثروة التي نرى فيها "أحسن كمآ أحسن الله إليك" ولكن للجميع!. والإسلام يوافق على ثروة يتحقق فيه القول "لا تنس نصيبك من الدنيا" ويمدحها. وأخيراً فإنّ الإسلام لا يطلب ثروةً ينبغي بها الفساد في الأرض وتُنسى بها القيم الإنسانية.. وتكون نتيجتها الإبتلاء بمسابقة جنون التكاثر، أو أن ينفصل الإنسان عن ذاته ويحتقر الآخرين، وربّما تجرّه إلى مواجهة الأنبياء كما فعل قارون في مواجهته لموسى(ع)!. يريد الإسلام الثروة لتكون وسيلة لملء الفراغ الإقتصادي، وأن يستفيد منها الجميع، ولتكون ضماداً لجراح المحرومين، وللوصول بها إلى اشباع الحاجات الإجتماعية وحلّ مشاكل المستضعفين... فالعلاقة بين هذه الثروة وهذه الأهداف المقدّسة ليست علاقة دنيوية، أو ارتباطاً بالدنيا، بل هي علاقة أخروية. كما نقرأ في حديث عن الإمام الصادق(ع) أن أحد أصحابه جاءه شاكياً أمره، وقال: والله إنّا لنطلي الدنيا ونُحبّ أن نؤتاها. فقال(ع): "تحبّ أن تصنع بها ماذا؟"قال: اعود بها على نفسي وعيالي، وأصل بها وأتصدق بها وأحج وأعتمر فقال الامام الصادق(ع): "ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلب الآخرة" (4). ومن هنا يتّضح فساد عقيدة طائفتين في هذا المجال: طائفة من المسلمين، أو بتعبير أدق: ممن يتظاهرون بالإسلام، وبعيدون عن تعاليمه، فيعرّفون الإسلام على أنّه محام عن المستكبرين. وطائفة من الأعداء المغرضين الذين يريدون أن يمسخوا وجه الإسلام الأصيل، ويجعلوه معادياً للثروة، وأنّه يقف إلى جانب الفقراء فحسب. وأساساً فإنّ أُمّة فقيرة لا تستطيع أن تعيش وحدها مرفوعة الرأس حرّة كريمة!. فالفقر وسيلة للإرتباط بالاجنبي والتبعية والفقر أساس الخزي في الدنيا والآخرة! والفقر يدعو الإنسان إلى الإثم والخطيئة. كما نقرأ في حديث للإمام الصادق في هذا الصدد "غنىً يحجزك عن الظلم، خير من فقر يحملك على الإثم" (5). إنّ على المجتمعات الإسلامية أن تسعى - مهما استطاعت - نحو التقدم لتكون غنيّة غير محتاجة، ولتبلغ مرحلة الإكتفاء الذاتي، وأن تقف على أقدامها وأن لا تضحّي باستقلالها وعزّتها وشرفها من أجل الفقر المذلّ الموجب للتبعية وتعلم أن منهج الإسلام الأصيل هو هذا لا غير. ﴿وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ﴾ من قريب ﴿يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ﴾ يوسع لا لكرامة ويضيق لا لهوان بل بحسب الحكمة، قيل وي للتعجب وكان للتشبيه أي ما أشبه الحال بأن الله يبسط وقيل ويك بمعنى ويلك أي ويك اعلم أن الله ﴿لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا﴾ فلم يعطنا مثله ﴿لَخَسَفَ بِنَا﴾ كما خسف به ﴿وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ لنعمة الله أو به وبرسله.