التفسير
نتيجة حبّ التسلط والفساد في الأرض:
بعد البيان المثير لما حدث لثري مستكبر ومتسلط، وهو قارون، تبدأ الآية الأُولى من هذا المقطع ببيان استنتاج كلي لهذا الواقع وهذا الحدث، إذ تقول الآية (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً).
أجل، فهم غير مستكبرين ولا مفسدين في الأرض وليس هذا فحسب، بل قلوبهم مطهّرة من هذه المسائل، وأرواحهم منزهة من هذه الأوساخ! فلا يريدون ذلك ولا يرغبون فيه.
وفي الحقيقة إنّ ما يكون سبباً لحرمان الإنسان من مواهب الدار الآخرة، هو هذان الأمران: "الرغبة في العلو" أيّ الإستكبار و "الفساد في الأرض" وهماالذنوب.. لأنّ كل ما نهى الله عنه فهو على خلاف نظام خلق الإنسان وتكامل وجوده حتماً، فارتكاب ما نهى الله عنه يدمر نظام حياة الإنسان، لذا فهو أساس الفساد في الأرض! حتى مسألة الإستعلاء - بنفسها - هي أيضاً واحدة من مصاديق الفساد في الارض، إلاّ أن أهميته القصوى دعت إلى أن يذكر بالخصوص من بين جميع المصاديق للفساد في الأرض!.
وقد رأينا في قصّة "قارون" وشرح حاله أنّ السبب الاساس في شقوته وهلاكه هو العلوّ و"الإستكبار".
ونجد في الرّوايات الإسلامية اهتماماً بهذه المسألة حتى أنّنا نقرأ حديثا عن الإمام أمير المؤمنين على(ع) يقول: "إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها" (1).
(وهذا أيضاً فرع صغير من الاستعلاء).
ومن الطريف أنّ صاحب "تفسير الكشاف" يعلق بعد ذكر هذا الحديث فيقول: بعض الطامعين ينسبون "العلوّ" في الآية محل البحث لفرعون بمقتضى قوله: (إنّ فرعون علا في الأرض)، (2) والفساد لقارون بمقتضى قوله: (تبغ الفساد في الأرض)، (3) ويدعون بأن من لم يكن كمثل فرعون وقارون فهو من أهل الجنّة والدار الآخرة، وعلى هذا فهم يبعدون فرعون وقارون وأمثالهما من الجنّة فحسب، ويرون الباقين من أهل الجنّة، إلاّ أنّهم لم يلاحظوا ذيل الآية (والعاقبة للمتقين) بدقة - كما لاحظها الإمام علي(ع)(4).
وما ينبغى إضافته على هذا الكلام هو أن هؤلاء الجماعة اخطاؤا حتى في معرفة قارون وفرعون.. لأنّ فرعون كان عالياً في الأرض وكان من المفسدين (إنّه كان من المفسدين)، (5) وقارون أيضاً كان مفسداً وكان عالياً بمقتضى قوله: (فخرج على قومه في زينته).(6)
ونقرأ في حديث آخر عن الإمام أميرالمؤمنين(ع) أنّه كان يسير في الأسواق أيام خلافته الظاهرية، فيرشد التائهين إلى الطريق ويساعد الضعفاء، وكان يمرّ على الباعة والكسبة ويتلوا الآية الكريمة (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً).
ثمّ يضيف سلام الله عليه: "نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من الناس" (7).
ومعنى هذا الكلام، أنّه كما لم يجعل الخلافة والحكومة وسيلة للاستعلاء، فلا ينبغي أن تجعلوا أموالكم وقدرتكم وسيلة للتسلط على الآخرين، فأنّ العاقبة لأولئك الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً وكما يقول القرآن في نهاية الآية (والعاقبة للمتقين).
و"العاقبة" بمفهومها الواسع هي النتيجة الصالحة، وهي الانتصار في هذه الدنيا، والجنّة ونعيمها في الدار الأخرى... وقد رأينا أنّ قارون وأتباعه إلى أين وصلوا وأيّة عاقبة تحمّلوا! مع أنّهم كانوا مقتدرين ولكن حيث كانوا غير متقين فقد ابتلوا بأسوأ العاقبة والمصير!.
ونختم كلامنا في شأن هذه الآية بحديث للإمام الصادق(ع) وهو أنّ الإمام الصادق حين تلا هذه الآية أجهش بالبكاء وقال: "ذهبت والله الأماني عند هذه الآية".(8)
﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ﴾ تكبرا وقهرا ﴿وَلَا فَسَادًا﴾ بغيا وظلما ﴿وَالْعَاقِبَةُ﴾ المحمودة ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ المعاصي.