لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
والأمر الرّابع تأكيد آخر على نفي جميع أنواع الشرك، إذ يقول تعالى: (ولا تدع مع الله إلهاً آخر). وهذه الأوامر المتتابعة كل واحد منها يؤكّد الآخر، يوضح أهمية التوحيد في المنهج الإسلامي، إذ بدونه يكون كل عمل زيفاً ووهماً. وبعد هذه الأوامر الأربعة تأتي أوصاف أربعة لله سبحانه، وهي جميعاً تأكيد على التوحيد أيضاً. فالأوّل قوله: (لا إله إلاّ هو). والثّاني قوله: (كل شيء هالك إلاّ وجهه). والوصف الثالث: (له الحكم) والحاكمية في عالمي التشريع والتكوين. والرابع: أن معادنا إليه (وإليه ترجعون). والأوصاف الثلاثة الأخيرة يمكن أن تكون دليلا على إثبات التوحيد وترك جميع أنواع عبادة الأصنام، الذي أشير إليه في الوصف الأول! لأنّه طالما كنّا هالكين جميعاً وهو الباقي. وطالما كان التدبير لنظام الوجود بيده والحكم له! وطالما كان معادنا إليه وإليه نرجع!... فما عسى أن يكون دور المعبودات غيره، وأي أحد يستحق العبادة سواه!؟ والمفسّرون الكبار لديهم آراء مختلفة في تفسير جملة (كل شيء هالك إلاّ وجهه) تدور حول محور كلمتي "وجه" و"هالك". لأنّ الوجه يطلق - من حيث اللغة - على المحيّا أو ما يواجهه الإنسان من الشخص المقابل، ولكن الوجه حين يطلق على الخالق فإنّه يعني عندئذ ذاته المقدسة!. وكلمة "هالك" مشتقّة من مادة "هلك" ومعناه الموت والعدم، فعلى هذايكون معنى الجملة المتقدمة فناء جميع الموجودات عدا ذات الخالق المقدسة... وهذا الفناء بالنسبة للموجودات الممكنة غير منحصر بفناء هذا العالم وانتهائه، فالموجودات الآن فانية قبال الذات المقدسة، وهي تحتاج إلى فيضه لحظة بعد لحظة، وليس لديها في ذاتها أي شيء، وكلّ ما لديها فمن الله! ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ موجودات هذا العالم جميعها متغير وفي معرض التبدل، وحتى طبقاً لفلسفة "الحركة الجوهرية" فذاتها هي التغيير بعينه، ونحن نعرف أن الحركة والتغيير معناهما الفناء والعودة الدائمية، فكل لحظة تموت موجودات العالم وتحيا!. فعلى هذا فإنّ الموجودات هالكة وفانية الآن - أيضاً - غير أن الذات التي لا طريق الفناء إليها ولا تهلك، هي الذات المقدسة! كما نعلم أنّ الفناء أو العدم يتجلى بصورة واضحة في نهاية هذا العالم، وكما يقول القرآن: (كل من عليها فان ويبقى وجه ربّك ذوالجلال والإكرام).(3) ولا يخصُّ الفناء ما على الأرض، بل يشمل حتى أهل السماء (ونفخ في الصور فصعق من في السموات والأرض).(4) فهذا التّفسير منسجم مع ظاهر الآية والآيات الأُخرى في القرآن، غير أن بعض المفسّرين ذكروا تفاسير أُخرى غير ما تقدم بيانه، ومنها: 1- أنّ المقصود من كلمة (وجه) هو العمل الصالح، ومفهوم هذه الآية يكون حينئذ أن جميع الأعمال تمضي مع الرياح سوى ما يكون خالصاً لله. وقال بعضهم: إنّ المراد بالوجه هو انتساب الأشياء إلى الله، فيكون مفهوم الاية أنّ كل شيء معدوم ذاتاً إلاّ من ناحية انتمائه إلى الله! وقال بعضهم: المراد بالوجه هو الدين، فيكون مفهوم الآية أن المذاهب كلها باطلة سوى دين الله. وجملة (له الحكم) هي كما فسّروها بأنّها الحاكمية التشريعية. وهو تأكيد على التّفسير السابق!. كما أن جملة (واليه ترجعون) فسّروها بالرجوع إلى الله في أخذ الشريعة عنه! وهذا تأكيد آخر على هذا المعنى(5). وهذه التفاسير مع ما بيّناه آنفاً لا نجد بينها منافاةً في الحقيقة!... لأنّنا حين عرفنا أن الشيء الوحيد الذي يبقى في هذا العالم هو الذات المقدسة لله فحسب! فيتّضح أن ما يرتبط بذات الله بنحو من الأنحاء فإنه يستحق البقاء والابدية. فدين الله الصادر منه أبديّ، والعمل الصالح الذي له أبديّ... والقادة الألهيّون الذين يرتبطون يتّسمون بالخلود. والخلاصة، كل ما هو مرتبط بالله - ولو بنحو من الأنحاء - فهو غير فان "فلاحظوا بدقّة". مسألتان 1- كيف تفنى جميع الأشياء؟! من جملة الأسئلة التي أُثيرت في ذيل الآية، هو أنّه إذا كان لابدّ من فناء جميع الأشياء في نهاية العالم، فلا محيص من أن تتلاشى الأتربة التي تكونت من أبدان الناس، في حين أن القرآن يصرّح مراراً بأن الله سيجمع هذه الاتربة وينشر الناس منها، وأن الناس سينشرون في يوم القيامة من قبورهم!. وطبقاً لظاهر الآيات - أيضاً - فإن الجنّة معدّة، والنّار معدّة ومهيأة من قبل، كما جاء التعبير عن الجنّة (أعدت للمتقين) أو ما شابه ذلك، وهي إشارة لخلق الجنّة وأنّها مهيأة للمتقين.. وقد ورد هذا التعبير في موضعين من آيات القرآن "الآية 123 من سورة آل عمران والآية 21 من سورة الحديد". كما ورد التعبير عن النّار بـ(أعدت للكافرين) في موضعين من القرآن أيضاً "البقرة الآية 24 وآل عمران الآية 131". فهل ستفنى الجنّة والنّار في انتهاء العالم؟! ثمّ بعد هذا كلّه فنحن نعتقد بالحياة البرزخية للإنسان، ونستفيد ذلك من آيات القرآن في شأن الأرواح، فهل ستفنى تلك أيضاً؟! والجواب على جميع الأسئلة يتّضح بما يلي: إنّ كثيراً ما يتفق أن يكون المراد من الهلاك والعدم هو تخلخل النظام ودماره، لا تلاشيه وفنائه فلو أن عمارة مثلا تهدمت بسبب الزلزلة فهنا يصدق عليها الفناء والهلاك، في حين أنّ مواد العمارة لا تزال موجودة، غير أن نظامها قد أختل وانعدم فحسب!. ونعرف أن في نهاية هذا العالم ستنطفىء الشمس، ويظلم القمر، وتندك الجبال، وتموت الموجودات الحيّة، فهذا معنى هلاكها! هذا من جهة!. ومن جهة أُخرى فإنّ الفناء متعلق بهذه الدنيا، وما في هذه الدنيا... أمّا الجنّة والنّار فسواء كانتا داخل هذا العالم أو خارجه، فليستا جزءاً من هذه الدنيا ليشملهما حكم الفناء والعدم لنظامهما، فهما متعلقتان بالآخرة لا بالدنيا! ومن جهة ثالثة، فإنّا ذكرنا آنفاً أنّ الهلاك - أو الفناء - بالنسبة للموجودات الممكنة غير منحصر بانتهاء هذا العالم.. فهي هالكة وفانية الآن أيضاً، لأنّها لا تملك شيئاً في داخل ذاتها، وكل ما عندها فمن غيرها، فهي متغيرة ودائمة الحركة، ومعنى ذلك الفناء التدريجي والمركب من الوجود والعدم! ومع بيان ما تقدم يتّضح الجواب على الأسئلة السابقة تماماً! 2 - التّفسير المنحرف لجملة (ولا تدع مع الله إلهاً آخر!) يستدل جماعة من الوهّابيين أحياناً على أن مسألة "التوسل والشفاعة" لا تنسجم مع حقيقة التوحيد، بالآية الآنفة وآيات أُخرى مشابهة لها. أذ يقول أُولئك: إنّ القرآن نهى عن عبادة غير الله بصريح العبارة، كما نهى أن ندعو أسماء سوى الله، إذ قال: (فلا تدعوا مع الله أحداً).(6) والحال أنّ المقصود من هذه الآيات ليس هو أن لا ندعو أشخاصاً آخرين، بل المقصود كما هو مستفاد من الآية (مع الله) أي أن من يعتقد أن ما كان لله يمكن طلبه من غير الله ويراه مستقلا في إنجازه، فإنه مشرك. ولكننا إذا اعتقدنا بأن جميع القدرات هي خاصة بالله، ولا نعتقد بأن أحداً معه يكون مبدأ الأثر... ونعتقد بأن لله أولياء يشفعون بإذنه وأمره، فنتوسل بهم إلى الله ليشفعوا لنا عند الله، فهذا هو التوحيد بعينه، وهذا هو ما أشارت إليه آيات القرآن مراراً. ترى هل كان قول إخوة يوسف لأبيهم: (يا أبانا استغفر لنا) شركاً؟! (سورة يوسف الآية 97). وهل - حين يقول القرآن: (ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرّسول لوجدوا الله تواباً رحيماً)، (7) يكون قول القرآن هذا دعوة نحو الشرك؟!! إنّ حقيقة الشفاعة والتوسل - أيضاً - ليس شيئاً سوى ما أشرنا إليه آنفاً(8)! رّبنا ألهم قلوبنا نورالتوحيد والمعرفة، لئلا نرى سواك، ولا نطلب سواك، ولا نرجوا سواك! اللّهم وثّق ارتباطنا بذاتك المقدسة يوماً بعد يوم، ارواحنا تحظى بقبس من بقاء وخلود ذاتك الخالدة! اللّهم أبعد حبّ الدنيا والاستعلاء والفساد في الأرض عن أرواحنا، واجعلنا في صفوف المتقين، (والعاقبة للمتقين). آمين ربّ العالمين انتهاء سورة القصص ﴿وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ إلا ذاته وعنهم (عليهم السلام) إلا وجهه الذي يؤتى منه وهو حججه ونحن وجهه، فالمراد بالهلاك ما يجر إلى الضلال والعذاب ﴿لَهُ الْحُكْمُ﴾ القضاء النافذ ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ للجزاء.