سبب النّزول
وردت روايات مختلفة في شأن نزول الآية الآنفة الذكر، ومضمون الجميع واحد وهي أنّ بعض الرجال الذين كانوا في مكّة وأسلموا(1)، حين سمعت أمهاتهم بذلك صممن على أن لا يتناولن طعاماً ولا يشربن ماءً حتى يرجع أبناؤهن عن الإسلام، وبالرغم من أن أية واحدة من هؤلاء الأُمهات لم تف بقولها، ورجعت عن إضرابها عن الطعام، إلاّ أنّ الآية المتقدمة نزلت لتوضح للجميع اُسلوب المعاملة بين الأبناء والآباء والأُمهات، في مجال الكفر والإيمان.
التّفسير
أفضل الوصايا بالنسبة للوالدين:
إنّ واحداً من أهم الإمتحانات الإلهية، هي مسألة "التضاد" بين خط الإيمان والتقوى وبين علاقة العاطفية والقرابة.. والقرآن في هذا المجال - يوضح وظيفة المسلمين بجلاء!
في البداية يتحدث عن قانون كلّي يستمد من جذور العواطف الإنسانية وردّ الجميل فيقول: (ووصينا الإنسان بوالديه).
وبالرغم من أنّ هذا حكم تشريعي، ولكن هذه المسألة قبل أن تكون "لازماً" تشريعياً، لها وجود في فطرة الانسان بشكل قانون تكويني.
وخاصّة أن التعبير بـ "الإنسان" هنا يلفت النظر.. فهذا القانون لا يختصُّ بالمؤمنين، بل كلّ من كان جديراً بأن يحمل اسم الإنسان ينبغي أن يكون عارفاً بحق الأبوين... وأن لا ينسى تكريمهما واحترامهما والإحسان إليهما طيلة عمره.. وإن كان كل ذلك لا يفي بحقوقهما!.
بعد ذلك، ومن أجل أن لا يتبادر إلى الذهن أنّ العلاقة العاطفية بالوالدين يمكن أن تكون حاكمةً على العلاقة بين الإنسان وربّه وإيمانه، يأتي استثناء صريح - ليوضّح هذا الموضوع في الآية، فيقول تعالى: (وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما).
والتعبير بـ(جاهداك) مفهومه بذل قصارى جهدهما وإصرارهما ومنتهى سعيهما للحيلولة بين الولد وبين الإيمان بالله.
والتعبير بـ(ما ليس لك به علم) إشارة إلى عدم منطقية الشرك، لأنّ الشرك لو كان صحيحاً واقعاً لكان عليه دليل بيّن.
وبتعبير آخر: متى ما لم يعلم الإنسان بشيء فلا ينبغي أن يتبعه فكيف إذا كان يعلم ببطلانه؟
فهذا الاتباع هو اتّباع للجهل، فلو أن الوالدين أمراك باتباع الجهل فلا تطعهما.
وأساساً فإنّ التقليد الأعمى خطأ حتى ولو كان في مورد الإيمان، فكيف إذا كان هذا التقليد للكفر والشرك!.
وهذه الوصية وردت - أيضاً - في سورة لقمان مع اضافة (وصاحبهما في الدنيا معروفاً) فمع عدم قبول دعوتهما للشرك، ينبغي عليك احترامهما والاحسان إليهما والارفاق بهما.
ولا ينبغي أن يتصور أحد أن وجوب مخالفة الأبوين فيما لو دعوا ولديهما إلى الشرك دليل على جواز الاساءة لهما، فهذا يؤكّد منتهى تأكيد الإسلام على احترام الأبوين.
وبهذا - يستفاد من هذا المنطلق أصل كلي: أي إن شيئاً لايمكن أن يكون حاكماً على علاقة الإنسان بالله، لأنّها مقدمة على كل شيء، حتى على علاقته بأبويه التي هي أقرب العلائق إليه.
والحديث المعروف "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" (2)... الذي نقل عن أمير المؤمنين علي(ع) يعطينا معياراً واضحاً لهذه المسائل!.
ثمّ يضيف تعالى في نهاية الآية (إليّ مرجعكم فانبئكم بما كنتم تعملون)وأجازيكم دون غمط ونقص في الثواب أو العقاب.
وهذه الجملة - في الحقيقة تهديد لأُولئك الذين يسيرون في طريق الشرك، والذين يدعون الآخرين إلى هذا الطريق.. لأنّها تقول بصراحة: إنّ الله يرى أعمالكم ويحفظهما ثمّ يعيدها إليكم "في معادكم".
﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ أمرناه بإيلائهما فعلا ذا حسن أو ما هو في ذاته حسن مبالغة أو قلنا له أحسن بهما حسنا ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾ في ذلك إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ﴿إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾ بركم وفاجركم ﴿فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ بالجزاء عليه.