ثمّ يتعرض القرآن الكريم إلى إحدى المسائل المتعلقة بالمعاد، وهي مسألة الرحمة والعذاب، فيقول: (يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون).
ومع أنّ رحمة الله مقدمةٌ على غضبه، إلاّ أن الآية هنا تبدأ أولا بذكر العذاب ثمّ الرحمة، لأنّها في مقام التهديد، وما يناسب مقام التهديد هو هذا الأُسلوب!.
هنا ينقدح السؤال التالي:
كيف يتحدث القرآن أوّلا عن العذاب والرحمة، ثمّ يتحدث عن معاد الناس إليه (واليه تقلبون)؟ في حين أن القضية على العكس من ذلك، ففي البداية يحضر الناس عند ساحته، ثمّ يشملهم العذاب أو الرحمة.. وربّما كان هذا هو السبب في أن يعتقد بعضهم أن العذاب والرحمة المذكورين هنا هما في هذه الدنيا.
ونقول جواباً على مثل هذا السؤال: إن العذاب والرحمة - بقرينة الآيات السابقة واللاحقة - هما عذاب القيامة ورحمتها، وجملة (وإليه تقلبون) إشارة إلى الدليل على ذلك: أي: بما أنّ معادكم إليه وكتابكم وحسابكم لديه، فالعذاب والرحمة - أيضاً - بإرادته وتحت أمره!.
ولا يبعد أن يكون العذاب والرحمة في هذه الآية لهما معنى واسع، بحيثيشمل العذاب والرحمة في الدارين.
كما يتّضح أنّ المراد بقول: (من يشاء) هو المشيئة الإلهية المقرونة بحكمته، أي كل من كان جديراً ومستحقاً لذلك.. فإن مشيئة الله ليست عبثاً، بل منسجمة مع الإستحقاق والجدارة!.
وجملة "تنقلبون" من مادة"القلب" ومعناها في الأصل: تغيير الشيء من صورة إلى صورة أُخرى، وحيث أن الإنسان في يوم القيامة يعود إلى هيئة الموجود الحي الكامل بعد أن كان تراباً لا روح فيه، فقد ورد هذا التعبير في إيجاده ثانيةً أيضاً.
ويمكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى هذه اللطيفة الدقيقة - أيضاً - وهي أن الإنسان يتبدل في الدار الأُخرى ويتغيّر تغيراً ينكشف باطنه به وتتجلى أسراره الخفية، وبهذا فهي تنسجم مع الآية (رقم 9) من سورة الطارق (يوم تبلى السرائر).
﴿يُعَذِّبُ مَن يَشَاء﴾ تعذيبه ﴿وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء﴾ رحمته ﴿وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ﴾ تردون.