التفسير
اسلوب المستكبرين في جوابهم لإبراهيم:
والآن علينا أن نعرف ماذا قال هؤلاء القوم الضّالون لإبراهيم(ع) ردّاً على أدلته الثّلاثة في مجال التوحيد والنّبوة والمعاد؟!
إنّهم - قطعاً - لم يكن لديهم جواب منطقي وكجميع الأقوياء المستكبرين فقد توسّلوا بقدراتهم الشيطانية وأصدروا أمراً بقتله، حيث يصرّح بذلك القرآن الكريم فيقول: (فما كان جواب قومه إلاّ أن قالوا اقتلوه أو حرّقوه!).
ويستفاد من هذا التعبير أن جماعة كانوا يميلون إلى حرق إبراهيم بالنّار، في حين كانت جماعة أُخرى تقترح أن يقتل بالسيف أو ما شاكله!
وأخيراً رُجح الرأىُ الأوّل، لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ أشدّ حالات الإعدام هو الاحراق بالنّار.
كما ويحتمل أيضاً أنّهم جميعاً كانوا يفكرون في قتله بالوسائل الطبيعية، غير أنّهم اتفقوا أخيراً على إحراقه بالنّار، وأن يبذلوا قصارى جهدهم في هذا الأمر.
وفي هذه الآية الكريمة لم يرد كلام عن كيفية إحراق إبراهيم(ع) بالنّار سوى هذا المقدار الذي استكملت به الآية الكريمة، وهو (فأنجاه الله من النّار).
غير أن تفصيل ما جرى عليه من الإحراق ورد في سورة الأنبياء (الآيات 68 - 70) وقد بيّنا ذلك هناك، فلا بأس بمراجعته!
ويضيف القرآن في الختام (إنّ في ذلك لآيات لقوم يؤمنون).
ولم تكن علامة وآية واحدة في هذا الصدد وفي هذه الحادثة، بل علائم وآيات... فمن جانب فإنّ عدم تأثير النّار في جسد إبراهيم بنفسه معجزة واضحة، وتبدل النّار إلى روضة و"سلام" على إبراهيم كما هو معروف معجزة أُخرى، وعدم استطاعة هذه الجماعة القوية التغلب على شخص واحد - وهو أعزل من كل وسيلة بحسب الظاهر - كان معجزة ثالثة أيضاً.
كما أنّ عدم تأثير هذا الحادث العجيب الخارق للعادة في أُولئك المظلمة قلوبهم، آية من آيات الله، إذ يسلب التوفيق من أمثال هؤلاء الأفراد المعاندين الألدّاء، بحيث لا تؤثر فيهم أعظم الآيات!.
وقد ورد في بعض الرّوايات أنّه لما اُلقي بإبراهيم الخليل مكتوف اليدين والرجلين في النّار، فإن الشيء الوحيد الذي احترق منه هو الحبل الذي كان مشدوداً وموثقاً به(1).
أجل، إنّ نار الجهل وجناية المنحرفين إنّما أحرقت وسائل الاسر، فتحرر إبراهيم(ع) منها... وهذه بنفسها تعدُّ آية أُخرى.
وربّما كان - لهذه الأسباب - أن عبّر القرآن عن قصّة نوح وسفينته بقوله: (جعلناها آية) بصيغة الإفراد، ولكنّه عبّر هنا بقوله: (لآيات) بصيغة الجمع!.
وعلى كل حال فإنّ ابراهيم(ع) نجّي من النّار بصورة خارقة للعادة وبلطف الله سبحانه، غير أنّه لم يترك أهدافه.. بل نهض بالأمر وازداد همّة وأعطى لأهدافه حرارة أكثر.
﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ﴾ قوم إبراهيم ﴿إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ﴾ فألقوه في النار ﴿فَأَنجَاهُ﴾ فنجاه ﴿اللَّهُ مِنَ النَّارِ﴾ بجعلها بردا وسلاما عليه ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ في إنجائه ﴿لَآيَاتٍ﴾ منها منعه من حرها وسرعة إخمادها مع عظمها وجعل مكانها روضا وعدم تضرره بالرمي ﴿لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ لأنهم المتفكرون فيها.