لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير اتّبعوا أحسن الأساليب في البحث والجدال: كان أكثر الكلام في الآيات المتقدمة في كيفية التعامل مع المشركين المعاندين وكان مقتضى الحال أن يكون الكلام شديد اللهجة حادّاً، وأن يعدَّ ما يعبدون من دون الله أوهى من بيت العنكبوت، أمّا في هذه الآيات - محل البحث - فيقع الكلام في شأن مجادلة أهل الكتاب الذين ينبغي أن يكون الكلام معهم لطيفاً، إذ أنّهم - على الأقل - قد سمعوا قسماً ممّا جاء به الأنبياء والكتبالسماوية، ولديهم استعداد أكثر للتعامل المنطقي، إذ ينبغي أن يكلم كل شخص بمقدار علمه وعقله وأخلاقه. فيقول القرآن في هذا الصدد: (لا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن)(1). "تجادلوا" مشتق من "جدال" ومعناه في الأصل فتل الحبل وإحكامه، كما تستعمل هذه المفردة في البناء المحكم وما أشبهه، وحين يتناقش اثنان في بحث معين فكل واحد منهما - في الحقيقة - يريد أن يلوي صاحبه عن عقيدته وفكرته.. لذا فقد سمّي هذا النقاش جدالا. كما يرد هذا التعبير في النزاع أيضاً، وعلى كل حال فإنّه المراد من قوله (ولا تجادلوا) المناقشات المنطقية. والتعبير بـ(التي هي أحسن) تعبير جامع يشمل الأساليب والطرق الصحيحة والمناسبة للتباحث أجمع، سواءً كان ذلك في الألفاظ أو المحتوى، وسواء كان في طريقة الكلام، أو الحركات والإشارات المصاحبة له. فعلى هذا يكون مفهوم الجملة المتقدمة: إنّ ألفاظكم ينبغي أن تكون بطريقة مؤدبة، والكلام ذا مودّة، والمحتوى مستدلا، وصوتكم هادئاً غير خشن، ولا متجاوزاً لحدود الأخلاق أو لهتك الحرمة، وكذلك بالنسبة لحركات الأيدي والعيون والحواجب التي تكمل البيان، ينبغي أن تكون هذه الحركات ضمن هذه الطريقة المؤدبة... وكم هو جميل هذا التعبير القرآني، إذ أوجز عالماً من المعاني الدقيقة في جملة قصيرة. كل هذه الأُمور لأجل أن الهدف من وراء النقاش والبحث ليس هو طلب التفوق ودحر الطرف الآخر، بل الهدف أن يكون الكلام حتى ينفذ في القلب وفي أعماق الطرف الآخر... وخير السبل للوصول إلى هذا الهدف هو هذا الأسلوب القرآني. وكثيراً ما يتفق أنّه لو استطاع الإنسان أن يبيّن قول الحق بصورة يراه الطرف الآخر متطابقاً لفكره ورأيه، فسرعان ما ينعطف إليه وينسجم معه، لأنّ الإنسان ذو علاقة بفكره كعلاقته بأبنائه. وهكذا فإنّ القرآن الكريم يثير الكثير من المسائل على صورة "السؤال والإستفهام" لينتزع جوابه من داخل فكر المخاطب فيراه منه! وبالطبع فإنّ لكل قانون استثناءً، ومنها هذا القانون أو الأصل الكلي في البحث والمجادلة الإسلامية، فقد يُعدّ في بعض الموارد ضعفاً، أو يكون الطرف الآخر مغروراً إلى درجة أن هذا التعامل الإنساني يزيده جرأة وعدواناً وتكبراً، لذلك فإنّ القرآن يضيف مستثنياً: (إلاّ الذين ظلموا منهم). وهم الذين ظلموا أنفسهم وظلموا الآخرين، وكتموا كثيراً من الآيات، لئلا يطلع الناس على أوصاف النّبي محمّد (ص). الظالمون الذين جعلوا أوامر الله التي لا تنسجم مع منافعهم الشخصية تحت أقدامهم. الظالمون الذين آمنوا بالخرافات فكانوا كالمشركين في عقيدتهم إذ قالوا: إن المسيح ابن الله، أو العزير ابن الله. وأخيراً فهم أُولئك الذين ظلموا وتذرعوا بالسيف والقوّة بدلا من البحث المنطقي، وتوسّلوا بالشيطنة والتآمر على النّبي(ص) وعلى الإسلام. ويختتم الآية بمصداق بارز من "المجادلة بالتي هي أحسن" ويمكنه أن يكون قدوة لأي بحث; فيقول القرآن الكريم: (وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون). كم هو جميل هذا التعبير! وكم هو رائع هذا النغم واللهجة! لهجة الوحدة والإيمان بكل ما أنزل الله الواحد، وحذف جميع العصبيّات، ونحن وأنتم جميعاً موحدون لله مسلمون له. وهذا مثل واحد من المجادلة بالتي هي أحسن التي ينجذب إليها كل من يسمعها، ويدلّ على أن الإنسان يجب أن يكون بعيداً عن التحزب أو طلب التفرقة، فنداء الإسلام هو نداء الوحدة والتسليم لكل كلام حق. وأمثلة هذا البحث كثيرة في القرآن، ومن ضمنها ماأشار إليه الإمام الصادق(ع) إذ قال: "أمّا الجدال بالتي هي أحسن فهو ما أمر الله تعالى نبيّه أن يجادل به من جحد البعث بعد الموت وإحياءه له، فقال الله حاكياً عنه: قل يا محمّد" (يحييها الذي أنشأها أوّل مرّة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجرة الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون)(2). والآية الأُخرى تؤكّد على الأصول الأربعة التي سبق ذكرها في الآية المتقدمة، فتقول: (وكذلك أنزلنا إليك الكتاب) أي القرآن. أجل... نزل هذا القرآن على أساس توحيد المعبود، وتوحيد دعوة جميع الأنبياء إلى الحق، والتسليم دون قيد أو شرط لأمر الله; والمجادلة بالتي هي أحسن!. ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا﴾ بالخصلة التي ﴿هِيَ أَحْسَنُ﴾ كمقابلة الخشونة باللين والغضب بالحلم ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ بالاعتداء أو العناد أو نبذ الذمة أو قولهم بالولد ﴿وَقُولُوا﴾ في المجادلة بالتي أحسن ﴿آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ﴾ وحده ﴿مُسْلِمُونَ﴾ مطيعون.