لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ثمّ يضيف القرآن معقباً: (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون). إنّهم لا يعلمون إلاّ الحياة الدنيا فحسب، بل يعلمون الظاهر منها ويقنعون به! فكلّ ما تمثله نظراتهم ونصيبهم من هذه الحياة هو اللهو واللذة العابرة والنوم والخيال... وما ينطوي في هذا الادران السطحي للحياة من الغفلة والغرور، غير خاف على أحد. ولو كانوا يعلمون باطن الحياة وواقعها في هذه الدنيا، لكان ذلك كافياً لمعرفة الآخرة! لأنّ التدقيق في هذه الحياة العابرة، يكشف أنّها حلقة من سلسلة طويلة ومرحلة من مسير مديد كبير، كما أن التدقيق في مرحلة تكوين الجنين يكشف عن أن الهدف النهائي ليس هو هذه المرحلة من حياة الجنين فحسب! بل هي مقدمة لحياة أوسع!. أجل، هم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا فحسب، ولكنّهم غافلون عن مكنونها ومحتواها ومفاهيمها!. ومن الطريف هنا أن تكرار الضمير "هم" يشير إلى هذه الحقيقة، وهي أن علة هذه الغفلة وسرّها تعود إليهم "فهم الغفلة وهم الجهلة" وهذا يشبه تماماً قول القائل لك مثلا: لقد أغفلتني عن هذا الأمر، فتجيبه: أنت كنت غافلا عن هذا الأمر، أي إن سبب الغفلة يعود إلى نفسك أنت!. بحوث 1 - إعجاز القرآن من جهة "علم الغيب" إن واحداً من طرق إثبات إعجاز القرآن، هو الإخبار بالمغيبات، ومثله الواضح في هذه الآيات - محل البحث - ففي عدّة آيات يخبر بأنواع التأكيدات عن انتصار كبير لجيش منهزم بعد بضع سنين.. ويعدّ ذلك وعداً إلهيّاً غير مكذوب ولا يتخلف أبداً. فمن جهة يتحدث مخبراً عن أصل الإنتصار والغلب (وهم من بعد غلبهم سيغلبون). ومن جهة يتحدث عن خبر لإنتصار آخر للمسلمين على الكفار مقترناً لزمان الإنتصار الذي يتحقق للروم (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله). ومن جهة ثالثة يصرّح أنّ هذا الأمر سيقع خلال عدّة سنوات (في بضع سنين). ومن جهة رابعة يسجّل قطعية هذا الوعد الإلهي بتأكيدين بالوعد (وعد الله لا يخلف الله وعده). ويحدثنا التأريخ أنّه لم تمض تسع سنوات حتى تحققت هاتان الحادثتان... فقد انتصر الروم في حربهم الجديدة على الفرس، واقترن زمان هذا الإنتصار بـ "صلح الحديبية" وطبقاً لرواية أُخرى أنّه كان مقارناً لمعركة بدر، إذ حقق المسلمون انتصاراً ملحوظاً على الكفار. والآن ينقدح هذا السؤال، وهو: هل يستطيع إنسان أن يخبر بعلم عادي بسيط، عن مثل هذه الحادثة المهمة بضرس قاطع؟.. حتى لو فرضنا أن الأمر كان مع تكهّن سياسي - ولم يكن - فينبغي أن يذكر هذا الأمر بقيد "الإحتياط" والإحتمال، لا بمثل هذه الصراحة والقطع، إذ لو ظهر خلافه لكان أحسن دليلوسند على إبطال دعوى النبوة بيد الأعداء!. والحقيقة هي أنّ مسائل من قبيل توقّع انتصار دولة كبيرة كالروم، أو مسألة المباهلة، تدل بصورة جيدة على أنّ نبيّ الإسلام(ص) كان قلبه متعلقاً بمكان آخر، وكان له سند قوي، وإلاّ فلا يمكن لأي أحد - في مثل هذه الظروف - أن يجرؤ على مثل هذا الأمر!. وخاصة، إنّ مطالعة سيرة النّبي(ص) تكشف أنّه لم يكن إنساناً يتصيد بالماء العكر، بل كانت أعماله محسوبة... فمثل هذا الإدعاء من مثل هذا الشخص يدل على أنّه كان يعتمد على ما وراء الطبيعة، وعلى وحي الله وعلمه المطلق. وسنتحدث عن تطبيق هذا التنبؤ التاريخي في القريب العاجل إن شاء الله. 2 - السطحيّون "أصحاب الظاهر" تختلف نظرة الإنسان المؤمن الإلهي أساساً مع نظرة الفرد المادي المشرك، اختلافاً كبيراً. فالأوّل طبقاً لعقيدة التوحيد - يرى أن العالم مخلوق لربّ عليم حكيم، وجميع أفعاله وفق حساب وخطة مدروسة، وعلى هذا فهو يعتقد أن العالم مجموعة أسرار ورموز دقيقة، ولا شيء في هذا العالم بسيط واعتيادي، وجميع كلمات هذا الكتاب "التكويني" ذات محتوى ومعنى كبير. هذه النظرة التوحيدية تقول لصاحبها: لا تمرّ على أية حادثة وأي موضوع ببساطة، إذ يمكن أن يكون أبسط المسائل أعقدها.. فهو ينظر دائماً إلى عمق هذا العالم ولا يقنع بظواهره، قرأ الدرس في مدرسة التوحيد، ويرى للعالم هدفاً كبيراً، وما من شيء إلاّ يراه في دائرة هذا الهدف غير خارج عنها. في حين أن الإنسان المادي غير المؤمن يعدّ الدنيا مجموعة من الحوادثالعُمي والصمّ التي لا هدف لها، ولا يفكر بغير ظاهرها، ولا يرى لها باطناً وعمقاً أساساً. ترى هل يعقل أن يكون لكتاب رسم طفل على صفحاته خطوطاً عشوائية، أهمية تذكر؟! وكما يقول بعض العلماء الكبار في علوم الطبيعة: إن جميع علماء البشر من أية فئة كانوا وأية طبقة، حين نهضوا للتفكير في نظام هذا العالم، كانوا ينطلقون من تفكير ديني "فتأملوا بدقّة". "أنشتاين" العالم المعاصر يقول: من الصعب العثور بين المفكرين في العالم شخص لا يحس بدين خاص... وهذا الدين يختلف مع دين الإنسان العامي، إنّه يدعو هذا العالم إلى التحيّر من هذا النظام العجيب والدقيق للكائنات، إذ تكشف عن وجهها أسراراً لا تقاس مع جميع تلك الجهود والأفكار المنظمة للبشر(5)!. ويقول في مكان آخر: إن الشيء الذي دعا العلماء والمفكرين والمكتشفين - في جميع القرون والأعصار - أن يفكروا في أسرار العالم الدقيقة، هو اعتقادهم الديني(6). ومن جهة أُخرى كيف يمكن أن يساوى بين من يعتبر هذه الدنيا مرحلة نهائية وهدفاً أصليّاً، ومن يعدّها مزرعة وميداناً للإمتحان للحياة الخالدة التي تعقب هذه الحياة الدنيا، فالأوّل لا يرى أكثر من ظاهر هذه الحياة، والآخر يفكر في أعماقها!. وهذا الإختلاف في النظر يؤثر في حياتهم بأجمعها، فالذي يعيش حياة سطحية وظاهرية يعتبر الإنفاق سبباً للخسران والضرر، في حين أن هذا "الموحد" يعدّها تجارة رابحة لن تبور. وذلك المادي يعتبر "أكل الربا" سبباً للزيادة ووفرة المال. وأمّا الموحد فيعده وبالا وشقاءً وضرراً. وذلك يعتبر الجهاد ضنىً وشقاءً ويعتبر الشهادة فناءً وانعداماً، وأمّا الموحد فيعد الجهاد رمزاً للرفعة، والشهادة حياة خالدة! أجل، إن غير المؤمنين لا يعرفون إلاّ الظواهر من الدنيا، وهم في غفلة عن الحياة الأُخرى (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون). 3 - المطابقة التاريخية لكي نعرف المقطع التاريخي الذي حدثت فيه المعارك بين الروم والفرس، يكفي أن نعرف في ذلك التاريخ أن حرباً طويلة حدثت في عهد "خسرو پرويز" ملك الفرس مع الروم استمرت زهاء أربع وعشرين سنة، حيث دامت من سنة "604 ميلادية إلى سنة 628". وفي حدود سنة 616 ميلادية هجم قائدان عسكريان في الجيش الفارسي هما: (شهربراز" و (شاهين) على الحدود الشرقية للروم، فهزما الروم هزيمة نكراء، وسيطرا على منطقة الشامات ومصر وآسيا الصغرى، فواجهت الروم الشرقية بسبب هذه الهزيمة حالة الإنقراض تقريباً، واستولى الفرس على جميع ما كان تحت يد الروم من آسيا ومصر. وكان ذلك في حدود السنة السابعة للبعثة! غير أنّ ملك الروم "هرقل" بدأ هجومه على بلاد فارس سنة 622 ميلادية وألحق هزائم متتابعة بالجيش الفارسي، واستمرت هذه المعارك حتى سنة 628 لصالح الروم، وغُلب خسرو پرويز، وانكسر انكساراً مريراً، فخلعه الفرس عن السلطنة وأجلسوا مكانه ابنه "شيرويه". وبملاحظة أنّ مولد النّبي (ص) كان سنة 571 ميلادية وكانت بعثته سنة 610 ميلادية، فإن هزيمة الروم وقعت في السنة السابعة للبعثة، وكان انتصارهم بينسنتي خمس وست للهجرة النبوية، ومن المعلوم أن السنة الخامسة حدثت فيها معركة الخندق، وتم في السنة السادسة صلح الحديبية، وبطبيعة الحال فإن تنقّل الأخبار عن حرب فارس والروم إلى منطقة الحجاز ومكّة كانت تستوعب عادة فترة من الزمان، وبهذا ينطبق هذا الخبر القرآني على هذه الفترة التاريخية بوضوح "فلاحظوا بدقة". (يعلمون ظاهرا من الحيوة الدنيا) أي مكاسبها (وهم عن الآخرة) التي هي الغرض منها (هم غافلون).