التفسير
أساس الفساد ومصدره أعمال الناس أنفسهم:
كان الكلام في الآيات االسابقة عن الشرك، ونعلم أنّ أساس جميع المفاسد هو الغفلة عن أصل التوحيد والتوجه نحو الشرك، لذلك فإنّ القرآن - في هذه الآيات محل البحث - يتحدث عن ظهور الفساد في الأرض بسبب أعمال الناس أنفسهم، فيقول: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس).
والله يريد أن يريهم ما قدموه و(ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهميرجعون).
والآية الآنفة الذكر تبيّن المعنى الواسع حول ارتباط الفساد بالذنب، الذي لا يختصّ بأرض "مكّة" والحجاز، ولا بعصر النّبي(ص)، بل هو من قبيل القضية الحقيقية التي تبيّن العلاقة بين الموضوع والمحمول!
وبعبارة أُخرى: حيثما ظهر الفساد فهو انعكاس لأعمال الناس وفيه - ضمناً - هدف تربوي، ليذوق الناس "طعم العلقم" نتيجة أعمالهم، لعلهم ينتهون ويثوبون إلى رشدهم!
ويقول بعضهم: إنّ هذه الآية ناظرة إلى القحط و "الجدب" الذي أصاب المشركين بسبب دعاء النّبي(ص) على مشركي مكّة!... فانقطعت المُزن ويبست الصحاري، وصار من الصعب عليهم الصيد من البحر الأحمر أيضاً.
وعلى فرض أن يكون هذا الكلام صحيحاً تاريخياً، إلاّ أنّه بيان لأحد المصاديق ولا يحدد معنى الآية في مسألة ارتباط الفساد بالذنب، فهي ليست محدّدة بذلك الزمان والمكان، ولا بالجدب وانقطاع "الغيث".
وممّا ذكرناه آنفاً يتّضح جيداً أنّ كثيراً من التّفاسير المحدودة والضيقة التي نقلها بعض المفسّرين في ذيل الآية غير مقبولة بأي وجه.
كما فسّروا الفساد في الأرض بأنّه قتل "هابيل" على يد "قابيل"، أو أن المراد بالفساد في البحر هو غصب السفن في عصر موسى، والخضر(ع).
أو أنّ المراد من الفساد في البر والبحر هو ظهور الحكّام المتسلطين الفاسدين الذين يشيعون الفساد في جميع هذه المناطق!.
وبالطبع فإنّ الممكن أن تكون مصاديق الآية مثل هؤلاء الأفراد الذين يتسلطون على الناس نتيجة الدنيا والمجاملة وجرّ الناس للذل، ولكن من المسلّم به أن هذا المصداق لا يعني تخصيص مفهوم الآية!.
كما أنّ جماعة من المفسّرين بحثوا في معنى الفساد في البحر أيضاً، فقالبعضهم: المراد بالبحر هو المدن التي إلى جانب البحر، وقال بعضهم: إنّ المراد بالبحر هو "المناطق المخصبة ذات البساتين والأثمار".
ولا نجد دليلا على هذه التمحّلات، لأنّ البحر معناه معروف، والفساد فيه لعله قلّة المواهب البحرية، أو عدم الأمن فيه، أو الحروب البحرية.
ونقرأ حديثاً عن الإمام الصادق(ع) في هذا الصدد "حياة دواب البحر بالمطر، فإذا كفّ المطر ظهر الفساد في البحر والبرّ، وذلك إذا كثرت الذنوب والمعاصي" (1).
وبالطبع فإنّ ما ورد في هذه الرواية هو مصداق واضح للفساد وما ورد في شأن نزول المطر "وحياة دواب البحر به" فهو موضوع دقيق، تؤكّد عليه التجربة، فكلما قلّ ماء السماء "المطر" قل السمك في البحر، حتى أنّنا سمعنا ممن يقطنون ساحل البحر يقولون: إن فائدة الغيث للبحر أكثر من فائدته للصحراء!.
وفي الآية التالية يأمر الله الناس بالسير في الأرض ليروا شواهد كثيرة "حيّة" من مسألة ظهور الفساد في الأرض بسبب المعاصي والذنوب من قبل الناس.
(ظهر الفساد في البر والبحر) كالقحط والموتان وكثرة المضار ومحق البركات (بما كسبت أيدي الناس) بسبب ذنوبهم أو ظهر الشر والظلم بكسبهم إياه (ليذيقهم بعض الذي عملوا) بعض وباله عاجلا (لعلكم يرجعون) يتوبون .