إضافةً إلى أنّهما تعتبران تأكيداً على كون مواعظ لقمان لإبنه خالصة، لأنّ الوالدين مع هذه العلاقة القويّة وخلوص النيّة لا يمكن أن يذكرا في مواعظهما إلاّ ما فيه خير وصلاح الولد، فتقول أوّلا: (ووصّينا الإنسان بوالديه) وعندئذ تشير إلى جهود ومتاعب الاُمّ العظيمة، فتقول: (حملته اُمّه وهناً على وهن)(5).
وهذه المسألة قد ثبتت من الناحية العلمية، إذ أوضحت التجارب أنّ الاُمّهات في فترة الحمل يصبن بالضعف والوهن، لأنّهنّ يصرفن خلاصة وجودهنّ في تغذية وتنمية الجنين، ويقدّمن له من موادهنّ الحياتية أفضلها، ولذلك فإنّ الاُمّهات أثناء فترة الحمل يبتلين بنقص أنواع الفيتامينات وفي حالة عدم تعويض هذا النقص فسيؤدّي إلى آلام ومتاعب كثيرة.
وهذا الأمر يستمر حتّى في فترة الرضاعة، لأنّ اللبن عصارة وجود الاُمّ، ولهذا تضيف بعد ذلك فترة رضاعه سنتان (وفصاله في عامين) كما اُشير إلى ذلك في موضع آخر من القرآن: (والوالدات يرضعن أولادهنّ حولين كاملين)(6)، والمراد فترة الرضاعة الكاملة، وإن كانت تتمّ أحياناً بفترة أقلّ.
وعلى كلّ حال، فإنّ الاُمّ في هذه الـ (33) شهراً - فترة الحمل، وفترة الرضاع - تبدي وتقدّم أعظم تضحية لولدها، سواء كان من الجانب الروحي والعاطفي، أو الجسمي، أو من جهة الخدمات والرعاية.
والملفت للنظر هنا أنّها توصي في البداية بالوالدين معاً، إلاّ أنّها عند بيان المشاقّ والمتاعب تؤكّد على متاعب الاُمّ، لتنبّه الإنسان إلى إيثارها وتضحياتها وحقّها العظيم.
ثمّ تقول: (أن اشكر لي ولوالديك) فاشكرني لأنّي خالقك والمنعم الأصليّ عليك، ومنحتك مثل هذين الأبوين العطوفين الرحيمين، واشكر والديك لأنّهما واسطة هذا الفيض وقد تحمّلا مسؤولية إيصال نعمي إليك.
فما أجمل أن يجعل شكر الوالدين قرين شكر الله! وما أعمق مغزاه!
ويقول الله تعالى في نهاية الآية بنبرة لا تخلو من التهديد والعتاب: (إليّ المصير).
نعم، فإنّك إذا قصّرت هنا فستحاسب على كلّ هذه الحقوق والمصاعب والخدمات بدقّة فيجب على الإنسان أن يؤدّي ما عليه من شكر مواهب الله.
وكذلك شكر نعمة وجود الأبوين وعواطفهما الصادقة الطاهرة لينجح في ذلك الحساب وتلك المحكمة.
وفي هذا المجال التفت بعض المفسّرين إلى مسألة لطيفة، وهي أنّه قد ورد التأكيد على رعاية حقوق الأبوين مراراً في القرآن المجيد، إلاّ أنّ التوصية بالأولاد تلاحظ قليلا - ما عدا مورد النهي عن قتل الأولاد، والتي كانت عادةً مشؤومة قبيحة وإستثنائية في عصر الجاهلية - وذلك لأنّ الوالدين، وبحكم عواطفهما القويّة، قلّ ما يهملوا أولادهما بيد النسيان، في حين يلاحظ بكثرة أنّ الأولاد ينسون الأبوين، وخاصّة عند الكبر والعجز، وتعتبر هذه آلم وأشدّ حالة لهما، وأسوأ صور كفران النعمة بالنسبة للأولاد(7).
﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا﴾ تهن وهنا ﴿عَلَى وَهْنٍ﴾ ضعفا فوق ضعف إذ كلما ازداد الحمل ازدادت ضعفا ﴿وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾ وهما مدة رضاعه ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ فأجازيك بعملك.