لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ثمّ إنتقل لقمان إلى المسائل الأخلاقية المرتبطة بالناس والنفس، فيوصي أوّلا بالتواضع والبشاشة وعدم التكبّر، فيقول: (ولا تصعّر خدّك للناس) أي لا تعرض بوجهك عن الناس (ولا تمش في الأرض مرحاً إنّ الله لا يحبّ كلّ مختال فخور). "تُصَعّر": من مادّة (صعّر)، وهي في الأصل مرض يصيب البعير فيؤدّي إلى إعوجاج رقبته. و "المرح": يعني الغرور والبطر الناشيء من النعمة. و "المختال": من مادّة (الخيال) و (الخيلاء)، وتعني الشخص الذي يرى نفسه عظيماً وكبيراً، نتيجة سلسلة من التخيّلات والأوهام. و "الفخور": من مادّة (الفخر) ويعني الشخص الذي يفتخر على الآخرين. والفرق بين كلمتي المختال والفخور، أنّ الاُولى إشارة إلى التخيّلات الذهنيّة للكبر والعظمة، أمّا الثّانية فهي تشير إلى أعمال التكبّر الخارجي. وعلى هذا، فإنّ لقمان الحكيم يشير هنا إلى صفتين مذمومتين جدّاً وأساس توهين وقطع الروابط الإجتماعية الصميميّة: إحداهما التكبّر وعدم الإهتمام بالآخرين، والاُخرى الغرور والعجب بالنفس، وهما مشتركتان من جهة دفع الإنسان إلى عالم من التوهّم والخيال ونظرة التفوّق على الآخرين، وإسقاطه في هذه الهاوية، وبالتالي تقطعان علاقته بالآخرين وتعزلانه عنهم، خاصّة وأنّه بملاحظة الأصل اللغوي لـ "صعّر" سيتّضح أنّ مثل هذه الصفات مرض نفسي وأخلاقي، ونوع من الإنحراف في التشخيص والتفكير، وإلاّ فإنّ الإنسان السالم من الناحية الروحية والنفسية لا يبتلى مطلقاً بمثل هذه الظنون والتخيّلات. ولا يخفى أنّ مراد لقمان لم يكن مسألة الإعراض عن الناس، أو المشي بغرور وحسب، بل المراد محاربة كلّ مظاهر التكبّر والغرور، ولمّا كانت هذه الصفات تظهر في طليعة الحركات العاديّة اليوميّة، فإنّه وضع إصبعه على مثل هذه المظاهر الخاصّة. ثمّ بيّن في الآية التالية أمرين وسلوكين أخلاقيين إيجابيّين في مقابل النهيين عن سلوكين سلبيين في الآية السابقة فيقول: ابتغ الإعتدال في مشيك: (واقصد في مشيك) وابتغ الإعتدال كذلك في كلامك ولا ترفع صوتك عالياً (واغضض من صوتك إنّ أنكر الأصوات لصوت الحمير)(3). إنّ هاتين الآيتين في الحقيقة أمرتا بصفتين، ونهتا عن صفتين: فالنهي عن "التكبّر" و "العجب"، فإنّ أحدهما يؤدّي إلى أن يتكبّر الإنسان على عباد الله، والآخر يؤدّي إلى أن يظنّ الإنسان أنّه في مرتبة الكمال وأسمى من الآخرين، وبالتالي سيغلق أبواب التكامل بوجهه، وإن كان لا يقارن بينه وبين الآخرين. وبالرغم من أنّ هاتين الصفتين مقترنتان غالباً، ولهما أصل مشترك، إلاّ أنّهما قد تفترقان أحياناً. أمّا الأمر بصفتين، فهما رعاية الإعتدال في العمل والكلام، لأنّ التأكيد على الإعتدال في المشي أو إطلاق الصوت هو من باب المثال في الحقيقة. والحقّ أنّ الإنسان الذي يتّبع هذه النصائح الأربع موفّق وسعيد وناجح في الحياة، ومحبوب بين الناس، وعزيز عند الله. وممّا يستحقّ الإنتباه أنّ من الممكن أن نسمع أصواتاً أزعج من أصوات الحمير في محيط حياتنا، كصوت سحب بعض القطع الفلزّية إلى بعضها الآخر، حيث يحسّ الإنسان عند سماعه بأنّ لحمه يتساقط، إلاّ أنّ هذه الأصوات لا تمتلك صفة عامّة، إضافةً إلى وجود فرق بين المزعج والقبيح من الأصوات، والحقّ هو أنّ صوت الحمار أقبح من كلّ الأصوات العاديّة التي يسمعها الإنسان، وبه شُبّهت صرخات ونعرات المغرورين البله. وليس القبح من جهة إرتفاع الصوت وطريقته فحسب، بل من جهة كونه بلا سبب أحياناً، لأنّ بعض المفسّرين يقولون: إنّ أصوات الحيوانات تعبّر غالباً عن حاجة، إلاّ أنّ هذا الحيوان يطلق صوته أحياناً بدون مبرّر أو داع، وبدون أيّ حاجة أو مقدّمة! وربّما كان ما ورد في بعض الرّوايات من أنّ الحمار كلّما أطلق صوته فقد رأى شيطاناً، لهذا السبب. وقال البعض: إنّ صراخ كلّ حيوان تسبيح إلاّ صوت الحمار! وعلى كلّ حال، فإنّنا إذا تجاوزنا كلّ ذلك، فإنّ كون هذا الصوت قبيحاً من بين الأصوات لا يحتاج إلى بحث، وإذا رأينا في الرّوايات المرويّة عن الإمام الصادق (ع)، والتي فسّرت هذه الآية بالعطسة بصوت عال، أو الصراخ عند التكلّم والتحدّث، فإنّه في الحقيقة مصداق واضح لذلك(4). تعليقات 1- آداب المشي صحيح أنّ المشي مسألة سهلة وبسيطة، إلاّ أنّ نفس هذه المسألة السهلة يمكن أن تعكس أحوال وأوضاع الإنسان الداخلية والأخلاقية، وقد تحدّد ملامح شخصيته، لأنّ روحيّة الإنسان وأخلاقه تنعكس في طيّات كلّ أعماله، كما قلنا سابقاً، وقد يكون العمل الصغير حاكياً عن روحية متأصّلة أحياناً. ولمّا كان الإسلام قد اهتمّ بكلّ أبعاد الحياة، فإنّه لم يهمل شيئاً في هذا الباب أيضاً. ففي حديث عن رسول الله (ص): "من مشى على الأرض إختيالا لعنته الأرض ومن تحتها ومن فوقها"(5). وفي حديث آخر عن النّبي الأكرم (ص) أنّه نهى أن يختال الرجل في مشيه، وقال: "من لبس ثوباً فاختال فيه خسف الله به من شفير جهنّم، وكان قرين قارون لأنّه أوّل من اختال!"(6). وكذلك ورد عن الصادق (ع) أنّه قال: "إنّ الله تبارك وتعالى فرض الإيمان على جوارح ابن آدم وقسّمه عليها وفرّقه فيها - إلى أن قال - وفرض على الرجلين أن لا تمشي بهما إلى شيء من معاصي الله، وفرض عليهما المشي إلى ما يرضي الله عزّوجلّ، فقال تعالى: (ولا تمش في الأرض مرحاً) وقال: (واقصد في مشيك)"(7). وقد نقل ذلك عن نبي الإسلام العزيز (ص)، وذلك أنّه كان قد مرّ من طريق، فرأى مجنوناً قد إجتمع الناس حوله ينظرون إليه، فقال: "علام إجتمع هؤلاء؟" فقالوا: على مجنون يصرع، فنظر إليهم النّبي (ص) وقال: "ما هذا بمجنون! ألا اُخبركم بالمجنون حقّ المجنون؟" قالوا: بلى يارسول الله، فقال: "إنّ المجنون: المتبختر في مشيه، الناظر في عطفيه، المحرّك جنبيه بمنكبيه، فذلك المجنون وهذا المبتلى"(8). 2- آداب الحديث لقد وردت إشارة إلى آداب الحديث في مواعظ لقمان، وقد فتح في الإسلام باب واسع لهذه المسألة، وذكرت فيه آداب كثيرة من جملتها: - طالما لم تكن هناك ضرورة للحديث والتكلّم، فإنّ السكوت خير منه، كما نرى ذلك في حديث عن الإمام الصادق (ع): "السكوت راحة للعقل"(9). - وجاء في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (ع): "من علامات الفقه: العلم والحلم والصمت، إنّ الصمت باب من أبواب الحكمة"(10). - وقد ورد التأكيد في روايات اُخرى على أنّه لا ينبغي للمؤمن أن يسكت في المواضع التي يلزم فيها الكلام، وأنّ الأنبياء بعثوا بالكلام لا بالسكوت، وأنّ وسيلة الوصول إلى الجنّة والخلاص من النار هي الكلام في الموضع المناسب(11). 3- آداب العشرة لقد اهتّمت الروايات الإسلامية الواردة عن النّبي (ص) وأئمّة أهل البيت (ع)بمسألة التواضع وحسن الخُلُق والملاطفة في المعاملة، وترك الخشونة والجفاء في المعاشرة، إهتماماً قلّ نظيره في الموارد الاُخرى، وأفضل وأبلغ شاهد في هذا الباب هي الروايات الإسلامية نفسها، ونذكر منها هنا نماذج: - جاء رجل إلى رسول الله (ص) فقال: يارسول الله، أوصني، فكان فيما أوصاه أن قال: "الق أخاك بوجه منبسط"(12). وفي حديث آخر عن النّبي (ص) أنّه قال: "ما يوضع في ميزان امرىء يوم القيامة أفضل من حسن الخُلُق"(13). - وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادق (ع): "البرّ وحسن الخُلُق يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار"(14). ونقل عن رسول الله (ص): "أكثر ما تلج به اُمّتي الجنّة تقوى الله وحسن الخُلُق"(15). وعن علي (ع) في شأن التواضع: "زينة الشريف التواضع"(16). - وأخيراً نطالع في حديث عن الإمام الصادق (ع): "التواضع أصل كلّ خير نفيس، ومرتبة رفيعة، ولو كان للتواضع لغة يفهمها الخلق لنطق عن حقائق ما في مخفيات العواقب... ومن تواضع لله شرّفه الله على كثير من عباده... وليس لله عزّوجلّ عبادة يقبلها ويرضاها إلاّ وبابها التواضع"(17). ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾ لا تمله عنهم تكبرا من الصعر داء يلوي عنق البعير وقرىء تصاعر ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا﴾ تمرح مرحا أو لأجل المرح وهو البطر ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ علة النهي والمختال مقابل الماشي مرحا والفخور للمصعر خده وعكس الترتيب للفاصلة