لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وتشير الآية التالية إلى مراحل تكامل الإنسان المعقّدة في عالم الرحم، وكذلك المراحل التي طواها آدم عند خلقه من التراب، فتقول: (ثمّ سوّاه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون). "سوّاه" من التسوية، أي الإكمال، وهذه إشارة إلى مجموع المراحل التي يطويها الإنسان من حال كونه نطفة إلى المرحلة التي تتّضح فيها جميع أعضاء بدنه، وكذلك المراحل التي طواها آدم بعد خلقه من التراب حتّى نفخ الروح(1). والتعبير بـ "النفخ" كناية عن حلول الروح في بدن الإنسان، فكأنّه شبّه الحال بالهواء والتنفّس، بالرغم من أنّه لا هذا ولا ذاك. فإن قيل: إنّ نطفة الإنسان منذ إستقرارها في الرحم - بل وقبل ذلك - كانت كائناً حيّاً وعلى هذا فأيّ معنى لنفخ الروح؟ قلنا في الجواب: إنّ النطفة عندما تنعقد في البداية ليس لها إلاّ نوعاً من "الحياة النباتية"، أي التغذية والنمو فقط، أمّا الحسّ والحركة التي هي علامة "الحياة الحيوانية"، وكذلك قوّة الإدراكات التي هي علامة الحياة الإنسانية، فلا أثر عن كلّ ذلك. إنّ تكامل النطفة في الرحم تصل إلى مرحلة تبدأ عندها بالحركة، وتحيا وتنبعث فيها القوى الإنسانية الاُخرى تدريجياً، وهذه هي المرحلة التي يعبّر عنها القرآن بنفخ الروح. أمّا إضافة "الروح" إلى "الله" فهي "إضافة تشريفية"، أي إنّ روحاً ثمينة وشريفة بحيث أنّ من المناسب أن تسمّى "روح الله" قد دبّت في الإنسان ونفخت فيه، وهذا يبيّن حقيقة أنّ الإنسان وإن كان من ناحية البعد المادّي يتكوّن من الطين والماء، إلاّ أنّه من البعد المعنوي والروحي يحمل "روح الله". إنّ أحد طرفي وجوده ينتهي إلى التراب، وطرفه الآخر يتّصل بعرش الله، فإنّه خليط من الملائكة والحيوان، ولوجود هذين البعدين فإنّ منحني صعوده ونزوله، وتكامله وإنحطاطه واسع جدّاً(2). وأشار القرآن في آخر مرحلة - والتي تعتبر المرحلة الخامسة في خلق الإنسان - إلى نعمة الاُذن والعين والقلب، ومن الطبيعي أنّ المراد هنا ليس خلقة هذه الأعضاء، لأنّ هذه الخلقة تتكوّن قبل نفخ الروح، بل المراد حسّ السمع والبصر والإدراك والعقل. والتأكيد على هذه الحواس الثلاث فقط من بين كلّ الحواس "الظاهرة" و "الباطنة"، لأنّ أهمّ حسّ ظاهري يربط الإنسان بالعالم الخارجي رابطة قويّة هو السمع والبصر، فالاُذن تدرك الأصوات، وخاصّة أنّ التربية والتعليم يتمّ بواسطتها، والعين وسيلة النظر إلى العالم الخارجي ومشاهدة مشاهد هذا العالم المختلفة، وقوّة العقل أهمّ حسّ باطني لدى الإنسان، وبتعبير آخر فإنّه حاكم على وجود البشر. والجدير بالذكر أنّ "أفئدة" جمع "فؤاد" بمعنى "قلب" ولكن مفهومها أدقّ من القلب حين يقصد بها عادةً الحنكة والفطانة في الفرد، وبهذا يبيّن الله تعالى في هذه الآية أهمّ وسائل المعرفة والإدراك الظاهرية والباطنية في الإنسان، لأنّ العلوم والمعارف إمّا أن يحصل عليها الإنسان بواسطة "التجربة" فالوسيلة هي السمع والبصر، أو عن طريق التحليل والإستدلال العقلي، والوسيلة لذلك هو العقل والفؤاد كما ورد التعبير عنه في هذه الآية، وحتّى الإدراك الحاصل من الوحي أو الإشراق والشهود القلبي يتمّ بواسطة هذه الوسيلة أيضاً، أي "الأفئدة". ولو فقد الإنسان هذه الوسائل للمعرفة، فسوف يخسر قيمته تماماً ويصبح مجرّد كميّة مهملة من المادّة والتراب، ولهذا نجد الآية الشريفة محل البحث تؤكّد في ختامها على مسألة الشكر لهذه النعم العظيمة على الإنسان وتقول (قليلا ما تشكرون) وذلك إشارة إلى أنّ الإنسان مهما سعى في أداء شكر هذه النعم والمواهب العظيمة، فمع ذلك لا يؤدّي حقّ الشكر. بحث كيفية خلق آدم من التراب: رغم أنّ الآيات القرآنية تحدّثت أحياناً عن خلق الإنسان من "طين" (كالآيات محلّ البحث)، وكما ورد في قصّة آدم وإبليس في قوله تعالى: (فسجدوا إلاّ إبليس قال أأسجد لمن خلقت طيناً).(3) وأحياناً اُخرى عن الخلق من الماء مثل: (وجعلنا من الماء كلّ شيء حي)، (4) إلاّ أنّ من المعلومن أنّ هذه جميعاً تعود إلى مطلب واحد، وحتّى عند الكلام عن خلق آدم من التراب، مثل (إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب).(5) لأنّ المراد: التراب الممتزج بالماء، أي الطين. ومن هنا تتّضح عدّة نقاط: 1- أنّ الذين احتملوا أنّ المراد من خلق الإنسان من التراب، هو أنّ أفراد البشر يتغذّون على النباتات - سواء كانت التغذية بصورة مباشرة أو غير مباشرة - وأنّ النباتات كلّها من التراب - قد جانبوا الصواب، لأنّ آيات القرآن يفسّر بعضها بعضاً، والآيات أعلاه إشارة إلى شخص آدم الذي خلق من التراب. 2- أنّ كلّ هذه الآيات دليل على نفي فرضية التكامل - وعلى الأقل في مورد الإنسان، وأنّ نوع البشر الذي ينتهي بآدم له خلق مستقلّ. وما قيل من أنّ آيات الخلق من التراب إشارة إلى نوع الإنسان الذي يعود إلى الموجودات أحادية الخليّة بآلاف الوسائط، وهي أيضاً قد جاءت - طبقاً للفرضيات الأخيرة - من الطين الموجود على جانب المحيطات، أمّا نفس آدم فقد كان فرداً انتُخب من بين نوع البشر، ولم يكن له خلق مستقلّ، بل إنّ إمتيازه كان في صفاته الخاصّة... هذه الفرضية لا تتناسب مع ظواهر آيات القرآن بأيّ وجه من الوجوه. ونؤكّد مجدّداً أنّ مسألة تحوّل الأنواع ليست قانوناً علميّاً مسلّماً، بل هي مجرّد فرضيّة - لأنّ الشيء الذي امتدّ أصله إلى ملايين السنين وخفي فيها، فمن المسلّم أنّه لا يخضع للتجربة والمشاهدة، ولا يمكن أن يكون في مصاف القوانين العلمية الثابتة - بل هي فرضية لتوجيه ظاهرة تنوّع الأجناس التي ظهرت إلى الوجود توجيهاً تخمينياً، ونحن نعلم أنّ الفرضيات في حالة تغيّر وتحوّل دائماً حيث تخلي الساحة أمام الفرضيات الجديدة. بناءً على هذا، فإنّه لا يمكن الإعتماد عليها مطلقاً في المسائل الفلسفية التي تحتاج إلى اُسس مسلّمة قطعية. وقد أوردنا إيضاحاً مفصّلا حول اُسس فرضية تكامل الأنواع، وعدم صحّتها، تحت عنوان (القرآن وخلق الإنسان) في ذيل الآية ( رقم 28) من سورة الحجر. وفي نهاية هذا البحث نرى لزاماً ذكر هذه المسألة، وهي أنّه ليس لفرضية التكامل أي إرتباط بمسألة التوحيد ومعرفة الله، ولا تعتبر دليلا على نفي عالم ما وراء الطبيعة، لأنّ الإعتقاد التوحيدي يقول: إنّ العالم قد خلق من قبل الله سبحانه، وإنّه هو الذي أعطى كلّ خواص الموجودات، ويشملها بفيضه في جميع المراحل. إنّ هذا المعنى يمكن أن يقبله المعتقد بنظرية (ثبوت الأنواع) كما يقبله من يذهب إلى (تطور الأنواع)، غير أنّ المشكلة الوحيدة التي يواجهها المعتقد بفرضية تحوّل الأنواع هي أنّ هذه الفرضيّة لا تتناسب مع التفصيل الذي بيّنه القرآن الكريم حول خلق آدم، حيث يذكر كيفيّة خلقه من التراب والطين. بناءاً على هذا فإنّنا ننفي فرضية التكامل لهذا السبب فقط، لا بسبب مخالفتها لمسألة التوحيد. هذا من الناحية التّفسيرية. أمّا من الناحية العلمية - أي العلوم الطبيعية - فإنّنا ننفي فرضية التكامل - وكما اُشير إلى ذلك - من جهة عدم إمتلاكها الأدلّة القطعيّة على ثبوتها. ﴿ثُمَّ سَوَّاهُ﴾ قومه وأتم تصويره ﴿وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ﴾ إضافة تشريف ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ ﴾ عدل إلى الخطاب تنبيها على جسامة نعم الجوارح ﴿السَّمْعَ﴾ أي الأسماع ﴿وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾ القلوب ﴿قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ﴾ ما زائدة أي شكرا قليلا.