لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ثمّ تطرّقت الآية التالية إلى الثواب العظيم للمؤمنين الحقيقيين الذين يتمتّعون بالصفات المذكورة في الآيتين السابقتين، فتقول بتعبير جميل يحكي الأهميّة الفائقة لثوابهم: (فلا تعلم نفس ما اُخفي لهم من قرّة أعين جزاءً بما كانوا يعملون). التعبير بـ (فلا تعلم نفس) وكذلك التعبير بـ (قرّة أعين) مبيّن لعظمة هذه المواهب والعطايا التي لا عدّ لها ولا حصر، خاصّة وأنّ كلمة (نفس) قد وردت بصيغة النكرة في سياق النفي، وهي تعني العموم وتشمل كلّ النفوس حتّى ملائكة الله المقرّبين وأولياء الله. والتعبير بـ (قرّة أعين) من دون الإضافة إلى النفس، إشارة إلى أنّ هذه النعم الإلهيّة التي خصّصت كثواب وجزاء للمؤمنين المخلصين في الآخرة، في هيئة تكون معها قرّة لعيون الجميع. (قرّة) مادّة القَرّ، أي البرودة، ومن المعروف أنّ دموع الشوق باردة دائماً، وأنّ دمع الغمّ والحسرة حارّ محرق، فالتعبير بـ (قرّة أعين) يعني في لغة العرب الشيء الذي يسبّب برودة عين الإنسان، أي أنّ دموع الشوق والفرح تجري من أعينهم، وهذه كناية لطيفة عن منتهى الفرح والسرور والسعادة. وفي حديث عن النّبي الأكرم (ص): "إنّ الله يقول: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا اُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"(5). وثمّة سؤال طرحه المفسّر الكبير العلاّمة "الطبرسي" في (مجمع البيان) وهو: لماذا اُخفي هذا الثواب والجزاء؟ ثمّ يذكر ثلاثة أجوبة لهذا السؤال: 1- أنّ الاُمور المهمّة والقيّمة لا يمكن إدراك حقيقتها بسهولة من خلال الألفاظ والكلام، ولذلك فإنّ إخفاءها وإبهامها يكون أحياناً أكثر تحفيزاً، وأبعث على النشاط، وهو أبلغ من ناحية الفصاحة. 2- أنّ الشيء الذي يكون قرّة للأعين، يكون عادةً مترامي الأطراف إلى الحدّ الذي لا يصل علم ابن آدم إلى جميع خصوصياته. 3- لمّا كان هذا الجزاء قد جعل لصلاة الليل المستورة، فإنّ المناسب أن يكون ثواب هذا العمل عظيماً ومخفيّاً أيضاً. وينبغي الإلتفات إلى أنّ جملة (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) في الآية السابقة إشارة إلى صلاة الليل. وفي حديث عن الإمام الصادق (ع): "ما من حسنة إلاّ ولها ثواب مبين في القرآن، إلاّ صلاة الليل، فإنّ الله عزّ إسمه لم يبيّن ثوابها لعظم خطرها، قال: فلا تعلم نفس ما اُخفي لهم من قرّة أعين"(6). وبغضّ النظر عن كلّ ذلك، فإنّ عالم القيامة - وكما أشرنا إلى ذلك سابقاً - عالم أوسع من هذا العالم سعةً لا تحتمل المقارنة، فهو أوسع حتّى من الحياة الدنيا بالقياس إلى حياة الجنين في رحم الاُمّ، وأبعاد ذلك العالم لا يمكن إدراكها عادةً بالنسبة لنا نحن السجناء داخل الجدران الأربعة للدنيا، ولا يمكن تصوّره من قبل أحد. إنّنا نسمع كلاماً عنه فقط، ونرى شبحه من بعيد، لكنّنا ما لم ندرك ولم نر ذلك العالم، فإنّ من المحال إدراك أهميّته وعظمته، كما أنّ إدراك الطفل في بطن الاُمّ لنعم هذه الدنيا - على فرض إمتلاكه العقل والإحساس الكامل - غير ممكن. وقد ورد نفس هذا التعبير في شأن الشهداء في سبيل الله، ذلك أنّ الشهيد عندما يقع على الأرض تقول له الأرض: مرحباً بالروح الطيّبة التي خرجت من البدن الطيّب، أبشر فإنّ لك ما لا عين رأت، ولا اُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر(7). وتبيّن الآية التالية المقارنة التي مرّت في الآيات السابقة بصيغة أكثر صراحة، فتقول: (أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً). لقد وردت الجملة بصيغة الإستفهام الإنكاري، ذلك الإستفهام الذي ينبعث جوابه من عقل وفطرة كلّ إنسان بأنّ هذين الصنفين لا يستويان أبداً، وفي الوقت نفسه، وللتأكيد، فقد أوضحت الآية عدم التساوي بصورة أوضح بذكر جملة: (لا يستوون). لقد جعل "الفاسق" في مقابل "المؤمن" في هذه الآية، وهذا دليل على أنّ للفسق مفهوماً واسعاً يشمل الكفر والذنوب الاُخرى، لأنّ هذه الكلمة أخذت في الأصل من جملة (فسقت الثمرة) إذا خرجت من قشرها، ثمّ أطلقت على الخروج على أوامر الله والعقل وعصيانها، ونعلم أنّ كلّ من كفر، أو إرتكب معصية فقد خرج على أوامر الله والعقل. وممّا يجدر ذكره أنّ الثمرة ما دامت في قشرها فهي سالمة، وبمجرّد أن تخرج من القشر تفسد، وبناءً على هذا فإنّ فسق الفاسق كفسق الثمرة، وفساده كفسادها. ونقل جمع من المفسّرين الكبار ففي ذيل هذه الآية أنّ "الوليد بن عقبة" قال يوماً لعلي (ع): أنا أبسط منك لساناً، وأحدّ منك سناناً! إشارة إلى أنّه - بظنّه - يفوق علياً في الفصاحة والحرب، فأجابه علي (ع): "ليس كما تقول يافاسق"، إشارة إلى أنّك أنت الذي اتّهمت بني المصطلق بوقوفهم ضدّ الإسلام في قصّة جمع الزكاة منهم، فكذّبك الله وعدّك فاسقاً في من سورة الحجرات: (ياأيّها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا...)(8). وأضاف البعض هنا بأنّ آية: (أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً) نزلت بعد هذه المحاورة، لكن يبدو من ملاحظة أنّ السورة مورد البحث (سورة السجدة) نزلت في مكّة، وقصّة الوليد وبني المصطلق وقعت في المدينة، فهذا من قبيل تطبيق الآية على مصداق واضح لها. وبناءً على ما ذهب بعض المفسّرين من أنّ الآية أعلاه والآيتين بعدها مدنية، لا يبقى إشكال من هذه الجهة، ولا مانع من أن تكون هذه الآيات الثلاث قد نزلت بعد المحاورة أعلاه. وعلى كلّ حال، فلا بحث ولا جدال في إيمان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) العميق المتأصّل، ولا في فسق الوليد، حيث اُشير في آيات القرآن لكلا الإثنين. ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ﴾ لا ملك ولا نبي ﴿مَّا﴾ الذي أو أي شيء ﴿أُخْفِيَ﴾ أذخر ﴿لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ﴿جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.