التّفسير
ميثاق الله الغليظ:
لمّا كانت الآيات السابقة قد بيّنت الصلاحيات الواسعة للرسول الأكرم (ص)تحت عنوان (النّبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) فإنّ هذه الآيات تبيّن واجبات النّبي (ص) وسائر الأنبياء العظام الثقيلة العظيمة، لأنّا نعلم أنّ الصلاحيات تقترن دائماً بالمسؤوليات، وحيثما وجد "حقّ" كان إلى جانبه "تكليف" ومسؤولية، فإنّ هذين الأمرين لا يفترقان أبداً.
بناءً على هذا فإنّ النّبي (ص) إن كان له حقّ وصلاحية واسعة، فإنّ عليه في المقابل مسؤوليات ضخمة.
تقول الآية الاُولى: (وإذا أخذنا من النّبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً) وعلى هذا فإنّها تذكر أوّلا جميع الأنبياء في مسألة الميثاق، ثمّ تخصّ بالذكر منهم خمسة أنبياء هم اُولو العزم، وعلى رأسهم نبيّ الإسلام (ص) لعظمته وجلالته وشرفه، وبعده الأنبياء الأربعة من اُولي العزم حسب ترتيب ظهورهم، وهم: "نوح وإبراهيم وموسى وعيسى" (ع).
وهذا يوحي بأنّ الميثاق المذكور كان ميثاقاً عامّاً أُخذ من جميع الأنبياء، وإن كان اُولو العزم متعهّدين بذلك الميثاق ومسؤولين عنه بصورة أشدّ.
ذلك الميثاق الذي بُيّن بتأكيد شديد جدّاً بجملة: (وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً)(1).
المهمّ أن نعلم أيّ ميثاق هذا الذي أخذ من كلّ الأنبياء؟! للمفسّرين هنا أقوال مختلفة يمكن القول أنّها جميعاً فروع مختلفة لأصل واحد، وهو تأدية مسؤولية التبليغ والرسالة والقيادة وهداية الناس في كلّ الأبعاد والمجالات.
إنّ الأنبياء كانوا مكلّفين جميعاً بدعوة كلّ البشر إلى التوحيد قبل كلّ شيء، وكانوا مكلّفين أيضاً بأن يؤيّد بعضهم بعضاً، كما أنّ الأنبياء اللاحقين يصدّقون ويؤكّدون صحّة دعوة الأنبياء السابقين.
والخلاصة: أن تكون الدعوة إلى جهة واحدة، وأن يبلغ الجميع حقيقة واحدة، ويوحّدوا الاُمم تحت راية واحدة.
ويمكن ملاحظة الشاهد على هذا الكلام في سائر آيات القرآن أيضاً، فنقرأ في الآية ( رقم 81) من سورة آل عمران: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين لما أتيتكم من كتاب وحكمة ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين).
وورد نظير هذا المعنى في الآية (187) من سورة آل عمران، حيث تقول بصراحة: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين اُوتوا الكتاب لتبيّننه للناس ولا تكتمونه)وعلى هذا فإنّ الله سبحانه قد أخذ الميثاق المؤكّد من الأنبياء بأن يدعوا الناس إلى توحيد الله، وتوحيد دين الحقّ والأديان السماوية، وكذلك أخذه من علماء أهل الكتاب بأن لا يقصّروا في تبيان الدين الإلهي بكلّ ما في وسعهم، وأن لا يكتموا ذلك أبداً.
﴿وَإِذْ﴾ واذكر إذ ﴿أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ﴾ عهودهم بتبليغ الرسالة ﴿وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ خصوا بالذكر لفضلهم وقدم نبينا لأفضليته ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾ شديدا أو مؤكدا باليمين.