وتقول الآية التالية تجسيداً للوضع المضطرب في تلك المعركة، وقوّة الأعداء الحربية الرهيبة، والقلق الشديد لكثير من المسلمين: (إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنّون بالله الظنونا).
يعتقد كثير من المفسّرين أنّ كلمة (فوق) في هذه الآية إشارة إلى الجانب الشرقي للمدينة، وهو المكان الذي دخلت منه قبيلة غطفان، و (أسفل) إشارة إلى غربها حيث دخلت منه قريش ومن معها.
إذا لاحظنا أنّ "مكّة" تقع في جنوب المدينة تماماً، فمن الطبيعي أنّ قبائل المشركين أتت من الجنوب، لكن ربّما كان وضع الطريق ومدخل المدينة في حالة بحيث إنّ هؤلاء قد داروا قليلا حول المدينة ودخلوا من الغرب.
وعلى كلّ حال فإنّ الجملة أعلاه إشارة إلى محاصرة هذه المدينة من قبل مختلف أعداء الإسلام.
إنّ جملة (زاغت الأبصار) - بملاحظة أن "زاغت" من مادّة الزيغ، أي الميل إلى جانب واحد - إشارة إلى الحالة التي يشعر بها الإنسان عند الخوف والإضطراب، حيث تميل عيناه إلى جهة واحدة، وتتسمّر وتثبت على نقطة معيّنة، ويبقى متحيّراً حينذاك.
وجملة (بلغت القلوب الحناجر) كناية جميلة عن حالة القلق والإضطراب، وإلاّ فإنّ القلب المادّي لا يتحرّك من مكانه مطلقاً، ولا يصل في أي وقت إلى الحنجرة.
وجملة (وتظنّون بالله الظنونا) إشارة إلى أنّ بعض المسلمين كانوا قد خطرت على أفكارهم ظنون خاطئة، لأنّهم لم يكونوا قد وصلوا بعد إلى مرحلة الكمال في الإيمان، وهؤلاء هم الذين تقول عنهم الآية التالية: إنّهم زلزلوا زلزالا شديداً.
ربّما كان بعضهم يفكّر ويظنّ بأنّنا سننهزم في نهاية المطاف، وينتصر جيش العدوّ بهذه القوّة والعظمة، وقد حانت نهاية عمر الإسلام، وأنّ وعود النّبي (ص)بالنصر سوف لا تتحقّق مطلقاً.
من الطبيعي أنّ هذه الأفكار لم تكن عقيدة راسخة، بل كانت وساوس حدثت في أعماق قلوب البعض، وهذا شبيه بما ذكره القرآن في معركة اُحد، حيث يقول: (وطائفة قد أهمّتهم أنفسهم يظنّون بالله غير الحقّ ظنّ الجاهلية).(3)
ولا شكّ أنّ المخاطب في هذه الآية محل البحث هم المؤمنون، وجملة (ياأيّها الذين آمنوا) التي وردت في الآية السابقة دليل واضح على هذا المعنى، وربّما لم يلتفت الذين اعتبروا المنافقين هم المخاطبون هنا إلى هذه المسألة، أو لعلّهم ظنّوا أنّ مثل هذه الظنون لا تتناسب مع الإيمان والإسلام، في حين أنّ ظهور مثل هذه الأفكار لا يتعدّى كونها وسوسة شيطانية، خاصّة في تلك الظروف الصعبة المضطربة جدّاً، وهذا أمر طبيعي بالنسبة لضعفاء الإيمان، والحديثي العهد بالإسلام(4).
﴿إِذْ جَاؤُوكُم﴾ بدل من إذ جاءتكم ﴿مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ﴾ من أعلى الوادي ومن أسفله ﴿وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ﴾ مالت عن مقرها دهشا وشخوصا ﴿وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾ فزعا إذ عند شدته تنتفخ الرئة فيرتفع القلب إلى الحنجرة وهي منتهى الحلقوم ﴿وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾ المختلفة فظن المخلصون النصر وأن الله مبتليهم فخافوا أضعف الاحتمال والمنافقون وضعفة القلوب ما حكى عنهم.