لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وبيّنت الآية الأخيرة - من الآيات مورد البحث - سابع وظيفة وآخرها من وظائف نساء النّبي، ونبّهتهن على ضرورة إستغلال أفضل الفرص التي تتاح لهنّ في سبيل الإحاطة بحقائق الإسلام والعلم بها وبأبعادها، فتقول: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة). فإنكنّ في مهبط الوحي، وفي مركز نور القرآن، فحتّى إذا جلستن في البيوت فأنتنّ قادرات على أن تستفدن جيّداً من الآيات التي تدوّي في فضاء بيتكنّ، ومن تعليمات الإسلام وحديث النّبي (ص) الذي كان يتحدّث به، فإنّ كل نَفَس من أنفاسه درس، وكلّ لفظ من كلامه برنامج حياة! وفيما هو الفرق بين "آيات الله" و "الحكمة"؟ قال بعض المفسّرين: إنّ كليهما إشارة إلى القرآن، غاية ما في الأمر أنّ التعبير بـ (الآيات) يبيّن الجانب الإعجازي للقرآن، والتعبير بـ (الحكمة) يتحدّث عن المحتوى العميق والعلم المخفي فيه. وقال البعض الآخر: إنّ "آيات الله" إشارة إلى آيات القرآن، و "الحكمة" إشارة إلى سنّة النّبي (ص) مواعظه وإرشاداته الحكيمة. ومع أنّ كلا التّفسيرين يناسب مقام وألفاظ الآية، إلاّ أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب، لأنّ التعبير بالتلاوة يناسب آيات الله أكثر، إضافةً إلى أنّ تعبير النّزول قد ورد في آيات متعدّدة من القرآن في مورد الآيات والحكمة، كالآية (231) من سورة البقرة: (وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة) ويشبهه ما جاء في الآية (113) من سورة النساء. وأخيراً تقول الآية: (إنّ الله كان لطيفاً خبيراً) وهي إشارة إلى أنّه سبحانه مطّلع على أدقّ الأعمال وأخفاها، ويعلم نيّاتكم تماماً، وهو خبير بأسراركم الدفينة في صدوركم. هذا إذا فسّرنا "اللطيف" بالمطّلع على الدقائق والخفيات، وأمّا إذا فسّر بصاحب اللطف، فهو إشارة إلى أنّ الله سبحانه لطيف ورحيم بكنّ يانساء النّبي، وهو خبير بأعمالكنّ أيضاً. ويحتمل أيضاً أن يكون التأكيد على "اللطيف" من جانب إعجاز القرآن، وعلى "الخبير" باعتبار محتواه الحِكَمي. وفي الوقت نفسه لا منافاة بين هذه المعاني ويمكن جمعها. بحوث 1- آية التطهير برهان واضح على العصمة: إعتبر بعض المفسّرين "الرجس" في الآية المذكورة إشارة إلى الشرك أو الكبائر - كالزنا - فقط، في حين لا يوجد دليل على هذا التحديد، بل إنّ إطلاق الرجس - وخاصّة بملاحظة ألفه ولامه، وهي ألف لام الجنس - يشمل كلّ أنواع الذنوب والمعاصي، لأنّ كلّ المعاصي رجس، ولذلك فإنّ هذه الكلمة أُطلقت في القرآن على الشرك والخمور والقمار والنفاق واللحوم المحرّمة والنجسة وأمثال ذلك. اُنظر الآيات: الحجّ - 30، المائدة - 90، التوبة - 125، الأنعام - 145. وبملاحظة أنّ الإرادة الإلهيّة حتمية التنفيذ والوقوع، وأنّ جملة: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس) دليل على إرادته الحتمية، وخاصّة بوجود كلمة (إنّما) الدالّة على الحصر والتأكيد، سيتّضح أنّ إرادة الله سبحانه قد قطعت بأن يكون أهل البيت منزّهين عن كلّ رجس وخطأ، وهذا هو مقام العصمة. وثمّة مسألة تستحقّ الإنتباه، وهي أنّه ليس المراد من الإرادة الإلهيّة في هذه الآية الأوامر والأحكام الإلهيّة في مسائل الحلال والحرام، لأنّ هذه الأحكام تشمل الجميع، ولا تختّص بأهل البيت، وبناءً على هذا فإنّها لا تتناسب مع مفهوم (إنّما). إذن، فهذه الإرادة المستمرّة نوع من الإمداد الإلهي الذي يعيّن أهل البيت على العصمة والإستمرار فيها، وهي في الوقت نفسه لا تنافي حرية الإرادة والإختيار، كما فصّلنا ذلك سابقاً. إنّ مفهوم هذه الآية في الحقيقة هو عين ما جاء في الزيارة الجامعة: "عصمكم الله من الزلل، وآمنكم من الفتن، وطهّركم من الدنس وأذهب عنكم الرجس وطهّركم تطهيراً". وينبغي أن لا نشكّ بعد هذا الإيضاح في دلالة الآية المذكورة على عصمة أهل البيت (ع). 2- فيمن نزلت آية التطهير؟ قلنا: إنّ هذه الآية بالرغم من أنّها وردت ضمن الآيات المتعلّقة بنساء النّبي، إلاّ أنّ تغيير سياقها - حيث تبدّل ضمير الجمع المؤنث إلى ضمير الجمع المذكّر - دليل على أنّ لهذه الآية معنىً ومحتوىً مستقلا عن تلك الآيات، ولهذا فحتّى اُولئك الذين لم يعتبروا الآية مختّصة بمحمّد (ص) وعلي وفاطمة والحسن والحسين (ع)، فإنّهم إعتقدوا أنّ لها معنىً واسعاً يشمل هؤلاء العظام ونساء النّبي (ص). إلاّ أنّ الرّوايات الكثيرة التي بين أيدينا تبيّن أنّ هذه الآية خاصّة بهؤلاء الأجلاّء، ولا تدخل الزوجات ضمن الآية، بالرغم من أنهنّ يتمتّعن بإحترام خاصّ، ونضع بين أيديكم بعضاً من هذه الروايات: أ: الرّوايات التي رويت عن أزواج النّبي (ص) أنفسهنّ، والتي حدثن فيها: إنّ النّبي (ص) عندما كان يتحدّث عن هذه الآية الشريفة سألناه: أنحن من أصحاب هذه الآية؟ فكان يجيب: بأنكنّ إلى خير، ولكن لستنّ من أصحابها. ومن جملتها الرواية التي رواها "الثعلبي" عن "اُمّ سلمة" في تفسيره، وذلك أنّ النّبي (ص) كان في بيتها إذ أتته فاطمة (عليها السلام) بقطعة حرير، فقال النّبي (ص): "ادعي لي زوجك وإبنيك - الحسن والحسين ـ" فأتت بهم فطعموا، ثمّ ألقى عليهم النّبي (ص)كساءً له خيبرياً وقال: "اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وعترتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً" فنزلت آية التطهير، فقلت: يارسول الله وأنا معهم؟ قال: "إنّك إلى خير" ولكنّك لست منهم(4). ويروي "الثعلبي" أيضاً عن "عائشة" أنّها عندما سئلت عن حرب الجمل وتدخّلها في تلك الحرب المدمّرة الطاحنة، قالت بأسف: كان ذلك قضاء الله. وعندما سئلت عن علي (ع) قالت: تسأليني عن أحبّ الناس كان إلى رسول الله(ص)، وزوج أحبّ الناس كان إلى رسول الله (ص)؟ لقد رأيت علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً (ع)، وجمع رسول الله (ص) بثوب عليهم ثمّ قال: "اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وحامتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً" قالت: فقلت: يارسول الله، أنا من أهلك! قال: "تنحّي فإنّك إلى خير"(5) - إلاّ أنّك لست جزءاً منهم -. إنّ هذه الرّوايات تصرّح أنّ زوجات النّبي (ص) لسن جزءاً من أهل البيت في هذه الآية. ب: لقد وردت روايات كثيرة جدّاً بصورة مجملة في شأن حديث الكساء، يستفاد منها جميعاً أنّ النّبي (ص) دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين (ع) - أو أنّهم أتوا إليه - فألقى عليهم عباءة وقال: "اللهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً"، فنزلت الآية: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس...). وقد روى العالم المعروف "الحاكم الحسكاني النيسابوري" هذه الروايات في (شواهد التنزيل) بطرق مختلفة عن رواة مختلفين(6). وهنا سؤال يلفت النظر، وهو: ماذا كان الهدف من جمعهم تحت الكساء؟ كأنّ النّبي (ص) كان يريد أن يحدّد هؤلاء ويعرّفهم تماماً، ويقول: إنّ الآية أعلاه في حقّ هؤلاء خاصّة، لئلاّ يرى أحد أو يظنّ ظانّ أنّ المخاطب في هذه الآية كلّ من تربطه بالنّبي (ص) قرابة، وكلّ من يعدّ جزءاً من أهله، حتّى جاء في بعض الرّوايات أنّ النّبي (ص) قد كرّر هذه الجملة ثلاث مرّات: "اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً"(7). ج: نقرأ في روايات عديدة اُخرى أنّ النّبي (ص) بقي ستّة أشهر بعد نزول هذه الآية ينادي عند مروره من جنب بيت فاطمة سلام الله عليها وهو ذاهب إلى صلاة الصبح: "الصلاة ياأهل البيت! إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً". وقد روى الحاكم الحسكاني هذا الحديث عن أنس بن مالك(8). وروى ابن عبّاس أيضاً هذا الحديث عن النّبي (ص)(9). وهنا مسألة تستحقّ الإنتباه، وهي أنّ تكرار هذه الأمر ستّة أشهر أو ثمانية أو تسعة أشهر بصورة مستمرّة جنب بيت فاطمة إنّما هو لبيان هذه المسألة تماماً لئلاّ يبقى مجال للشكّ لدى أيّ شخص بأنّ هذه الآية قد نزلت في شأن هؤلاء النفر فقط، خاصّة وأنّ الدار الوحيدة التي بقي بابها مفتوحاً إلى داخل المسجد بعد أن أمر الله نبيّه بأن تغلق جميع أبواب بيوت الآخرين، هي دار فاطمة (عليها السلام)، ولا شكّ أنّ جماعة من الناس كانوا يسمعون ذلك القول من النّبي (ص) حين الصلاة هناك - تأمّلوا ذلك -. ومع ذلك، فإنّ ممّا يثير العجب أنّ بعض المفسّرين يصرّون على أنّ للآية معنىً عامّاً تدخل فيه أزواج النّبي، بالرغم من أنّ أكثر علماء الإسلام، السنّة منهم والشيعة، قد حدّدوها بهؤلاء الخمسة. وممّا يستحقّ الإلتفات أنّ عائشة - زوجة النّبي لم تكن تدع شيئاً في ذكر فضائلها، ودقائق علاقتها بالنّبي (ص) بشهادة الروايات الإسلامية، فإذا كانت هذه الآية تشملها فلابدّ أنّها كانت ستتحدّث بها في المناسبات المختلفة، في حين لم يرو شيء من ذلك عنها مطلقاً. د: رويت روايات عديدة عن الصحابي المعروف "أبي سعيد الخدري" تشهد بصراحة بأنّ هذه الآية قد نزلت في شأن هؤلاء الخمسة الأطهار: "نزلت في خمسة: في رسول الله، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين"(10). وهذه الرّوايات كثيرة بحيث عدّها بعض المحقّقين متواترة. وممّا قلناه نستنتج أنّ المصادر ورواة الأحاديث التي تدلّ على إختصاص الآية بالخمسة المطهّرة وحصرها بهم كثيرة بحيث لا تدع لأحد المجال للشكّ في هذه الدلالة، حتّى أنّه ذُكر في شرح (إحقاق الحقّ) أكثر من سبعين مصدراً من مصادر العامّة المعروفة، وأمّا مصادر الشيعة في هذا الباب فتربو على الألفا(11). وقد روى صاحب كتاب (شواهد التنزيل) - وهو من علماء الإخوة السنّة المشهورين - أكثر من (130) حديثاً في هذا الموضوع(12). وبغضّ النظر عن كلّ ذلك، فإنّ بعض أزواج النّبي قد قمن بأعمال طوال حياتهنّ تخالف مقام العصمة، ولا تناسب كونهنّ معصومات، كحادثة "حرب الجمل" التي كانت ثورة وخروجاً على إمام الزمان، والتي تسبّبت في إراقة دماء كثيرة، فقد بلغ عدد القتلى في هذه الحرب - عند بعض المؤرخّين - سبعة عشر ألف قتيل. ولا شكّ أنّ هذه المعركة لا يمكن توجيهها، بل إنّنا نرى أنّ عائشة نفسها قد أظهرت الندم بعدها، وقد مرّ نموذج من هذا الندم في البحوث السابقة. إنّ إنتقاص عائشة من خديجة - والتي هي من أعظم نساء المسلمين، وأكثرهنّ تضحية وإيثاراً، وأجلّهنّ فضيلة وقدراً - مشهور في تاريخ الإسلام، وقد آلم هذا الكلام رسول الله (ص) حتّى ظهرت على وجهه الشريف آثار الغضب وقال: "لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدّقتني إذ كذّبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس"(13). 3- هل أنّ الإرادة الإلهيّة هنا تكوينية أم تشريعية؟ مرّت الإشارة في طيّات تفسير هذه الآية إلى هذا الموضوع، وقلنا: إنّ الإرادة في جملة: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس) إرادة تكوينية لا تشريعية. ولمزيد التوضيح ينبغي أن نذكّر بأنّ المراد من "الإرادة التشريعية" هي أوامر الله ونواهيه، فنعلم مثلا أنّ الله سبحانه يريد منّا أداء الصلاة والصوم والحجّ والجهاد، وهذه إرادة تشريعية. ومن المعلوم أنّ الإرادة التشريعية تتعلّق بأفعالنا لا بأفعال الله عزّوجلّ. في حين أنّ الآية أعلاه تتعلّق بأفعال الله سبحانه، فهي تقول: إنّ الله أراد أن يذهب عنكم الرجس، وبناءً على هذا فإنّ مثل هذه الإرادة يجب أن تكون تكوينية، ومرتبطة بإرادة الله سبحانه في عالم التكوين. إضافةً إلى ذلك، فإنّ مسألة الإرادة التشريعية فيما يتعلّق بالتقوى والعفّة لا تنحصر بأهل البيت (ع)، لأنّ الله قد أمر الجميع بالتقوى والتطهّر من الذنوب، وبذلك لا تكون لهم مزيّة وخاصيّة، لأنّ كلّ المكلّفين مشمولون بهذا الأمر. وعلى أيّة حال، فإنّ هذا الموضوع - أي الإرادة التشريعيّة - مضافاً إلى أنّه لا يناسب ظاهر الآية، فانّه لا يتناسب مع الأحاديث السابقة بأيّ وجه من الوجوه، لأنّ كلّ تلك الأحاديث تتحدّث عن فضيلة سامية وهبة مهمّة خاصّة بأهل البيت (ع). ومن المسلّم أيضاً أنّ "الرجس" هنا لا يعني الرجس الظاهري، بل هو إشارة إلى الأرجاس الباطنية، وإطلاق هذه الكلمة ينفي إنحصارها وكونها محدودة بالشرك والكفر والأعمال المنافية للعفّة وأمثال ذلك، فإنّها تشمل كلّ الذنوب والمعاصي والمفاسد العقائدية والأخلاقية والعملية. والمسألة الاُخرى التي ينبغي الإلتفات إليها بدقّة هي أنّ الإرادة التكوينية التي تعني الخلقة والإيجاد، تعني هنا "المقتضي" لا العلّة التامّة لتكون موجبة للجبر وسلب الإختيار. وتوضيح ذلك، إنّ مقام العصمة يعني حالة تقوى الله التي توجد عند الأنبياء والأئمّة بمعونة الله سبحانه، لكن وجود هذه الحالة لا يعني أنّهم غير قادرين على إرتكاب المعصية، بل إنّهم قادرون على إتيانها، غير أنّهم يعفّون أنفسهم ويجلّونها عن التلوّث بها بإختيارهم، ويغضّون الطرف عنها طوعاً، تماماً كالطبيب الحاذق الذي لا يتناول مطلقاً مادّة سمّية جدّاً وهو يعلم الأخطار التي تنجم عن تناولها، ومع أنّه قادر على تناولها، إلاّ أنّ علومه وإطلاعه ومبادئه الفكرية والروحية تدفعه إلى الإمتناع إرادياً وإختياراً عن هذا العمل. ويجب التذكير بهذه المسألة، وهي أنّ هذه التقوى موهبة خاصّة منحت للأنبياء لا للآخرين، لكن الله سبحانه قد منحهم إيّاها للمسؤوليات الثقيلة الخطيرة الملقاة على عاتقهم في قيادة الناس وإرشادهم، وبناءً على هذا فإنّه إمتياز يعود نفعه على الجميع، وهذه عين العدالة، تماماً كالإمتياز الخاصّ الذي منحه الله لطبقات العين وأغشيتها الرقيقة والحسّاسة جدّاً، والتي يستفيد منها جميع البدن. إضافةً إلى أنّ الأنبياء تعظم مسؤولياتهم وواجباتهم بنفس المقدار الذي يتمتّعون بهذا المواهب الإلهية والإمتيازات، فإنّ ترك الاُولى من قبلهم يعادل ذنباً كبيراً يصدر من الناس العاديين، وهذا معيار وتشخيص لخطّ العدالة. والنتيجة أنّ هذه الإرادة إرادة تكوينية في حدود المقتضى - وليست علّة تامّة - وهي في الوقت نفسه لا توجب الجبر ولا تسلب الإختيار والإرادة الإنسانية. 4- جاهلية القرن العشرين! مرّت الإشارة إلى أنّ جمعاً من المفسّرين تورّطوا في تفسير (الجاهلية الاُولى) وكأنّهم لم يقدروا أن يصدّقوا ظهور جاهلية اُخرى في العالم بعد ظهور الإسلام، وأنّ جاهلية العرب قبل الإسلام ضئيلة تجاه الجاهلية الجديدة، إلاّ أنّ هذا الأمر قد تجلّى للجميع اليوم، حيث نرى مظاهر جاهلية القرن العشرين المرعبة، ويجب أن تعدّ تلك إحدى تنبؤات القرآن الإعجازية. إذا كان العرب في زمان الجاهلية يغيرون ويحاربون، وإذا كان سوق عكاظ - مثلا - ساحة لسفك الدماء لأسباب تافهة عدّة مرّات، وقتل على أثرها أفراد معدودون، فقد وقعت في جاهلية عصرنا حروب ذهب ضحيّتها عشرون مليون إنسان، وجرح وتعوّق أكثر من هذا العدد! وإذا كانت النساء "تتبرّج" في زمن الجاهلية ويلقين خمرهنّ عن رؤوسهن بحيث كان يظهر جزء من صدورهنّ ونحورهنّ وقلائدهنّ وأقراطهنّ، ففي عصرنا تشكّل نواد تسمّى بنوادي العراة - ونموذجها مشهور في بريطانيا - حيث يتعرّى أفرادها كما ولدتهم اُمّهاتهم، وفضائح البلاجات على سواحل البحار والمسابح، بل وحتّى في الأماكن العامّة وعلى قارعة الطريق يخجل القلم من ذكرها. وإذا كانت في الجاهلية "زانيات من ذوات الأعلام"، حيث كنّ يرفعن أعلاماً فوق بيوتهنّ ليدعين الناس إلى أنفسهنّ، ففي جاهلية قرننا اُناس يطرحون اُموراً ومطالب في هذا المجال عبر صحف خاصّة، يندى لها الجبين، ولجاهلية العرب مئة مرتبة من الشرف على هذه الجاهلية. والخلاصة: ماذا نقول عن وضع المفاسد التي توجد في عصرنا الحاضر... عصر التمدّن المادّي الآلي الخالي من الإيمان، فعدم الحديث عنها أولى، ولا ينبغي أن نلوّث هذا التّفسير بذكرها. إنّ ما قلناه كان جانباً من العبء الملقى على عاتقنا لبيان حياة الذين يبتعدون عن الله تعالى، فإنّهم وإن امتلكوا آلاف الجامعات والمراكز العلمية والعلماء المعروفين، فهم غارقون في وحل الفساد ومستنقع الرذيلة، بل إنّهم قد يضعون هذه المراكز العلمية وعلماءها في خدمة هذه الفجائع والمفاسد أحياناً. ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ بالكسر من قرن يقرن وقرىء بالفتح وهو لغة فيه ﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ﴾ لا تظهرن زينتكن للرجال ﴿تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾ تبرجا مثل تبرج النساء الجاهلية القديمة وهو زمان ولادة إبراهيم أو ما بين آدم ونوح والأخرى ما بين عيسى ومحمد وقيل الأولى جاهلية الكفر والأخرى جاهلية الفسق في الإسلام وروي أنها صفراء بنت شعيب خرجت على يوشع ﴿وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ في أوامره ونواهيه ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ﴾ الذنب ﴿أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) نداء أو مدح ﴿وَيُطَهِّرَكُمْ﴾ من جميع المآثم ﴿تَطْهِيرًا﴾ أجمع المفسرون على نزولها في أهل العباء، وبه روايات مستفيضة ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ﴾ من القرآن الجامع بين الأمرين ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا﴾ في تدبير خلقه ﴿خَبِيرًا﴾ بمصالحه