لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَـلَـتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً(39)﴾ التّفسير من هم المبلّغون الحقيقيون؟ تشير الآية مورد البحث، ومناسبة للبحث الذي مرّ حول الأنبياء السابقين في آخر آية من الآيات السابقة، إلى أحد أهم برامج الأنبياء العامّة، فتقول: (الذين يبلّغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلاّ الله). وكذلك الحال بالنسبة إليك، فينبغي أن لا تخش أحداً في تبليغ رسالات الله، وعندما يأمرك الله سبحانه أن حطّم سنّة جاهلية خاطئة في مسألة زواج مطلّقة المتبنّي، وتزوّج بزينب مطلّقة زيد، فيجب أن لا تدع لأدنى قلق وخوف من قول هذا وذاك في تأدية هذا التكليف إلى نفسك سبيلا، فإنّ هذه سنّة جميع الأنبياء (ع). إنّ عمل الأنبياء (ع) في كثير من المراحل هو كسر مثل هذه السنن والأعراف عادةً، ولو أنّهم سمحوا لأقلّ خوف وتردّد أن ينفذ إلى نفوسهم فسوف يفشلون في أداء رسالاتهم، فيجب على هذا أن يسيروا بحزم وثبات، ويستوعبوا كلمات المسيئين الجارحة غير المتزنة، ويستمرّوا في طريقهم دون أن يهتّموا بإصطناع الأجواء ضدّهم، وضجيج العوام، وتآمر الفاسدين والمفسدين وتواطئهم، لأنّ كلّ الحسابات بيد الله سبحانه، ولذلك تقول الآية في النهاية: (وكفى بالله حسيباً). إنّه يحسب إيثار الأنبياء وتضحياتهم في هذا الطريق ويجزيهم عليها، كما يحفظ كلمات الأعداء البذيئة وثرثرتهم ليحاسبهم عليها ويجازيهم. إنّ جملة: (وكفى بالله حسيباً) دليل في الحقيقة على أنّ القادة الإلهيين يجب أن لا يخشوا شيئاً أو أحداً في إبلاغ الرسالات، لأنّ الله سبحانه هم المحصي لجهودهم، وهو المثيب عليها. ملاحظات 1- المراد من "التبيلغ" هنا هو الإبلاغ والإيصال، وعندما يرتبط الأمر بـ "رسالات الله" فإنّه يعني أن يعلّم الأنبياء الناس ما علّمهم الله عن طريق الوحي، وأن ينفذوه إلى القلوب عن طريق الإستدلال والإنذار والتبشير والموعظة والنصيحة. 2- "الخشية" تعني الخوف المقترن بالتعظيم والإحترام، ويختلف عن الخوف المجرّد من هذه الخاصية من هذه الجهة. وقد تستعمل أحياناً بمعنى مطلق الخوف. وقد ورد في مؤلّفات المحقّق "الطوسي" كلام في الفرق بين هذين اللفظين، وهو في الحقيقة يشير إلى المعنى العرفاني لا اللغوي، فانّه يقول: إنّ الخشية والخوف وإن كانا في اللغة بمعنى واحد - أو يقربان من معنى واحد - إلاّ أنّ بينهما فرقاً لدى أهل البصائر، وهو: إنّ "الخوف" يعني القلق والإضطراب الداخلي من العواقب التي ينتظرها الإنسان نتيجة إرتكابه المعاصي والذنوب، أو تقصيره في الطاعة، وهذه الحالة تحصل لأغلب الناس وإن إختلفت درجاتها، أمّا أعلى مراتبها فلا تحصل إلاّ لفئة قليلة منهم. أمّا "الخشية" فهي الحالة التي تحصل للإنسان لدى إدراكه عظمة الله وهيبته، والخوف من بقائه مبعداً عن أنوار فيضه، وهذه الحالة لا تحصل إلاّ لاُولئك الذين وقفوا على عظمة ذاته المقدّسة وجلال كبريائه، وتذوّقوا طعم قربه، ولذلك عدّ القرآن هذه الحالة خاصّة بعباد الله العلماء فقال: (إنّما يخشى الله من عباده العلماء)(1). 3- جواب عن سؤال؟ قد يقال: إنّ هذه الآية تتناقض مع ما مرّ في الآيات السابقة، فهي تقول هنا: إنّ أنبياء الله لا يخشون إلاّ الله، ولا يخشون أحداً غيره، إلاّ أنّه قد ورد في الآيات السابقة: (وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحقّ أن تخشاه)؟ إلاّ أنّ الإجابة على هذا السؤال تتّضح بتأمّل النقطتين التاليتين: الاُولى: أنّ النّبي (ص) إنّما كان خائفاً من عدم تحمّل عدد كبير من الناس لنقض هذه السنّة، ومن عدم إستيعابهم للمسألة، وبذلك ستتزعزع اُسس إيمانهم من هذه الجهة، ومثل هذه الخشية ترجع في الحقيقة إلى خشية الله سبحانه. والاُخرى: أنّ الأنبياء لا يعيشون حالة الخوف والقلق من شخص ما في تبليغهم رسالات الله، أمّا في ما يتعلّق باُمور الحياة الشخصية والخاصّة فلا مانع من أن يخافوا من أمر خطير كاتّهام وطعن الناس، أو أن يكونوا كموسى (ع) إذ خاف - حسب الطبيعة البشرية - عندما ألقى العصا وتحوّلت إلى ثعبان عظيم، فإنّ مثل هذا الخوف والإضطراب إذا لم يكن مفرطاً لا يعدّ عيباً ونقصاً، بل قد يواجه هذه المسألة أشجع الناس أحياناً، إنّما العيب والنقص هو الخوف من أداء التكليف الإلهي في الحياة الإجتماعية. 4- هل كان الأنبياء يستعملون التقيّة؟ إستفاد جماعة من هذه الآية أنّ التقيّة حرام مطلقاً للأنبياء في تبليغ الرسالة، لأنّ القرآن يقول: (ولا يخشون أحداً إلاّ الله). غير أنّه يجب الإنتباه إلى أنّ للتقيّة أنواعاً، ولم تنف الآية في مورد دعوة الأنبياء وإبلاغ الرسالة إلاّ نوعاً واحداً، وهو التقيّة خوفاً، في حين أنّ للتقيّة أنواعاً منها التقيّة مداراةً وتورية. والمراد من التقيّة المداراتية أن يكتم الإنسان عقيدته أحياناً لجلب محبّة الطرف المقابل ليقوى على إستمالته للتعاون في الأهداف المشتركة. والمراد من تقيّة "التورية" والإخفاء هو أنّه يجب أن تخفى المقدّمات والخطط للوصول إلى الهدف، فإنّها إن اُفشيت وإنتشرت بين الناس وأصبحت علنية، وأطلع العدوّ عليها فمن الممكن أن يقوم باجهاضها. إنّ حياة الأنبياء - وخاصّة نبي الإسلام (ص) - مليئة بموارد التقيّة هذه، لأنّا نعلم أنّه (ص) كان كثيراً ما يخفي أهدافه ومقاصده عندما كان يتوجّه إلى ميدان الحرب، وكان يرسم خططه الحربية بخفاء تامّ، وكان يستخدم اُسلوب الإستتار والتخفّي - والذي هو نوع من التقيّة - في جميع المراحل. وكان يتّبع أحياناً اُسلوب "المراحل" - وهو نوع من التقيّة - لبيان حكم ما، فمثلا نرى أنّ مسألة تحريم الربا أو شرب الخمر لم تبيّن في مرحلة واحدة، بل تمت في مراحل متعدّدة بأمر الله سبحانه، أي أنّها تبدأ من المراحل الأبسط والأسهل حتّى تنتهي بالحكم النهائي الأساسي. وعلى أيّة حال، فإنّ للتقيّة معنىً واسعاً، وهو: (إخفاء الحقائق والواقع للحفاظ على الأهداف من التعرّض للخطر والإنهيار) وهذا الشيء متعارف بين عقلاء العالم، والقادة الربّانيون يفعلون ذلك في بعض المراحل للوصول إلى أهدافهم المقدّسة، كما نقرأ ذلك في قصّة "إبراهيم" (ع) بطل التوحيد، حيث أخفى هدفه من البقاء في المدينة في اليوم الذي يخرج فيه عبدة الأصنام خارج المدينة لإجراء مراسم العيد ليستغلّ فرصة مناسبة فينهال على الأصنام ويحطّمها. وكذلك أخفى "مؤمن آل فرعون" إيمانه ليستطيع أن يعيّن موسى (ع) في اللحظات الحسّاسة وينقذه من القتل، ولهذا السبب ذكر القرآن له تسعة مواقف وصفات عظيمة. ومن هنا نعلم أنّ التقيّة خوفاً فقط غير جائزة على الأنبياء، لا الأنواع الاُخرى للتقيّة. وبالرغم من أنّ الكلام في هذا الباب كثير، إلاّ أنّنا ننهي هذا البحث بحديث جامع غنيّ المحتوى عن الإمام الصادق (ع)، أنّه قال: "التقيّة ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقيّة له، والتقيّة ترس الله في الأرض، لأنّ مؤمن آل فرعون لو أظهر الإسلام لقتل"(2). وكان لنا بحث مفصّل حول التقيّة في ذيل الآية (106) من سورة النحل. 5- شرط الإنتصار في التبليغ: إنّ الآية المذكورة دليل واضح على أنّ الحزم والإخلاص وعدم الخوف من أي أحد إلاّ الله تعالى، شرط أساسي في التقدّم والرقي في مجال الإعلام والتبليغ. الأشخاص الذين يراعون رغبات وميول هذا وذاك في مقابل أمر الله، ويوجّهون الحقّ والعدالة بما يناسب أهواءهم، سوف لا يحصلون على نتيجة مطلقاً، فلا نعمة أسمى من نعمة الهداية، ولا خدمة أنفع من إهداء هذه النعمة للبشرية، ولذلك كان جزاء وثواب هذا العمل أعظم من كلّ ثواب وعطاء، ومن هنا نقرأ في حديث عن أمير المؤمنين (ع) أنّه قال: "بعثني رسول الله (ص) إلى اليمن وقال لي: ياعلي لا تقاتلن أحداً حتّى تدعوه، وأيم الله لئن يهدي الله على يديك رجلا خير ممّا طلعت الشمس وغربت"(3). ولهذا السبب أيضاً يجب أن يستغني المبلّغون الحقيقيون عن الناس، ولا يخافون أي مقام ومنصب، فإنّ تلك الحاجة والخوف سيتركان أثراً على أفكارهم وإرادتهم شاءوا أم أبوا. إنّ المبلّغ الإلهي يفكّر فقط - بمقتضى (وكفى بالله حسيباً) - بأنّ محصي الأعمال والمحاسب عليها هو الله تعالى، وبيده جزاؤه وثوابه، وهذا الوعي والعرفان هو الذي يمدّه ويعينه في هذا الطريق المليء بالعقبات. ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ﴾ قيل تعريض بعد تصريح ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ كافيا للمخاوف أو محاسبأ.