لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَد مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَىْء عَلِيماً(40)﴾ التّفسير مسألة الخاتمية: هذه الآية هي آخر ما بيّنه الله سبحانه فيما يتعلّق بمسألة زواج النّبي (ص)بمطلّقة زيد لكسر عرف جاهلي خاطيء، وهي جواب مختصر كآخر جواب يقال هنا، وتبيّن في نهايتها حقيقة مهمّة اُخرى - وهي مسألة الخاتمية - بمناسبة خاصّة. تقول أوّلا: (ما كان محمّد أبا أحد من رجالكم) لا زيد ولا غيره، وإذا ما أطلقوا عليه يوماً انّه "ابن محمّد" فإنّما هو مجرّد عادة وعرف ليس إلاّ، وما إن جاء الإسلام حتّى اجتثّت جذوره، وليس هو رابطة طبيعيّة عائلية. طبعاً كان للنبي (ص) أولاد حقيقيون، وأسماؤهم "القاسم" و "الطيّب" و "الطاهر" و "إبراهيم"، إلاّ أنّهم - طبقاً لنقل المؤرخّين - جميعاً قد ودّعوا هذه الدنيا وارتحلوا عنها قبل البلوغ، ولذلك لم يطلق عليهم أنّهم "رجال"(1). والإمامان الحسن والحسين (ع) اللذان كانوا يسمّونهم أولاد النّبي رغم انّهما بلغا سنين متقدّمة في العمر، إلاّ أنّهما كانا لا يزالان صغيرين عند نزول هذه الاية. بناءً على هذا فإنّ جملة: (ما كان محمّد أبا أحد من رجالكم) والتي وردت بصيغة الماضي، كانت صادقة في حقّ الجميع قطعاً. وإذا ما رأينا في بعض تعبيرات النّبي (ص) نفسه أنّه يقول: "أنا وعلي أبوا هذه الاُمّة" فمن المسلّم أنّ المراد لم يكن الاُبوّة النسبية، بل الاُبوّة الناشئة من التعليم والتربية والقيادة والإرشاد. مع هذه الحال، فإنّ الزواج من مطلقّة زيد - والذي بيّن القرآن فلسفته بصراحة بأنّه إلغاء للسنن الخاطئة - لم يكن شيئاً يبعث على البحث والجدال بين هذا وذاك، أو أنّهم يريدون أن يتّخذوه وسيلة للوصول إلى نواياهم السيّئة. ثمّ تضيف: بأنّ علاقة النّبي (ص) معكم إنّما هي من جهة الرسالة والخاتمية فقط (ولكن رسول الله وخاتم النّبيين) وبهذا قطع صدر الآية الإرتباط والعلاقة النسبية بشكل تامّ وقطعي، وأثبت ذيلها العلاقة المعنوية الناشئة من الرسالة والخاتمية، ومن هنا يتّضح ترابط صدر الآية وذيلها. هذا إضافةً إلى أنّ الآية تشير إلى حقيقة هي: أنّ علاقته معكم في الوقت نفسه أشدّ وأسمى من علاقة والد بولده، لأنّ علاقته علاقة الرّسول بالاُمّة، ويعلم أنّ سوف لا يأتي رسول بعده، فكان يجب عليه أن يبيّن لهذه الاُمّة ويطرح لها كلّ ما تحتاجه إلى يوم القيامة في منتهى الدقّة وغاية الحرص عليها. ولا شكّ أنّ الله العليم الخبير قد وضع تحت تصرّفه كلّ ما كان لازماً في هذا الباب، من الاُصول والفروع، والكليّات والجزئيات في جميع المجالات، ولذلك يقول سبحانه في نهاية الآية: (وكان الله بكلّ شيء عليماً). وينبغي الإلتفات إلى أنّ كونه "خاتم الأنبياء" يعني أيضاً أنّه خاتم المرسلين، وما ألصقه بعض مبتدعي الأديان لخدش كون مسألة الخاتمية بهذا المعنى، من أنّ القرآن قد اعتبر النّبي (ص) خاتم الأنبياء لا خاتم المرسلين، إنّما هو إشتباه كبير، لأنّ من كان خاتماً للأنبياء يكون خاتماً للرسل بطريق أولى، لأنّ مرحلة "الرسالة" أسمى من مرحلة "النبوّة" - تأمّلوا ذلك -. إنّ هذا الكلام يشبه تماماً أن نقول: إنّ فلاناً ليس في بلاد الحجاز، فمن المسلّم أنّ هذا الشخص سوف لا يكون موجوداً في مكّة، أمّا إذا قلنا: إنّه ليس في مكّة، فمن الممكن أن يكون في مكان آخر من الحجاز. بناءً على هذا، فإنّه تعالى لو كان قد سمّى النّبي خاتم المرسلين، فمن الممكن أن لا يكون خاتم الأنبياء، أمّا وقد سمّاه "خاتم الأنبياء" فمن المسلّم أنّه سيكون خاتم الرسل أيضاً، وبتعبير المصطلحات فإنّ النسبة بين النّبي والرّسول نسبة العموم والخصوص المطلق. بحوث 1- ما هو الخاتم؟ "الخاتم" - على زنة حاتم - لدى أرباب اللغة: هو الشيء الذي تُنهى به الاُمور، وكذلك جاء بمعنى الشيء الذي تختم به الأوراق وما شابهها. وكان هذا الأمر متداولا فيما مضى - ولا يزال إلى اليوم - حينما يريدون إغلاق الرسالة أو غطاء الوعاء أو باب المنزل لئلاّ يفتحها أحد، فإنّهم كانوا يضعون مادّة لاصقة على الباب أو القفل ويختمون عليها. ويكون هذا الخاتم من الصلابة بحيث إنّه لابدّ من كسره إذا ما اُريد فتح الباب، وهذه المادّة التي توضع على مثل هذه الأشياء تسمّى "خاتماً". ولمّا كانوا في السابق يستعملون لهذا الأمر الطين الصلب الذي يلصق، فإنّنا نقرأ في متون بعض كتب اللغة المعروفة أنّ معنى الخاتم هو "ما يوضع على الطينة"(2). كلّ ذلك بسبب أنّ هذه الكلمة مأخوذة من مادّة "الختم" أي النهاية، ولمّا كان هذا العمل - أي الختم - يجري في الخاتمة والنهاية فقد اُطلق عليه اسم الخاتم لذلك. وإذا ما رأينا أنّ أحد معاني الخاتم هو الخاتم الذي يوضع في اليد، فبسبب أنّهم كانوا يضعون إمضاءهم وتوقيعهم على خواتيمهم ويختمون الرسائل بها، ولذلك فإنّ من جملة الاُمور التي تذكر في أحوال النّبي (ص) وأئمّة الهدى (ع)والشخصيات الاُخرى هو نقش خاتمهم. ويروي "الكليني" ـ(رحمه الله) - في الكافي حديثاً عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: "إنّ خاتم رسول الله كان من فضّة نقشه محمّد رسول الله"(3). وجاء في بعض التواريخ أنّ إحدى حوادث السنة السادسة للهجرة أنّ النّبي(ص)إختار لنفسه خاتماً نقش فيها، وذلك أنّهم أخبروه أنّ الملوك لا يقرؤون الرسائل إذا لم تكن مختومة(4). وجاء في كتاب "الطبقات": أنّ النّبي (ص) لمّا صمّم أن ينشر دعوته في الآفاق، ويكتب الرسائل إلى ملوك الأرض وسلاطينها أمر أن يصنعوا له خاتماً كتب عليه (محمّد رسول الله) وكان يختم به رسائله(5). بهذا البيان يتّضح جيداً أنّ الخاتم وإن اُطلق اليوم على خاتم الزينة أيضاً، إلاّ أنّ أصله مأخوذ من الختم، أي النهاية، وكان يطلق ذلك اليوم على الخواتيم التي كانوا يختمون بها الرسائل. إضافةً إلى أنّ هذه المادّة قد إستعملت في القرآن في موارد متعدّدة، وكلّها تعني الإنهاء أو الختم والغلق، مثل: (اليوم نختم على أفواههم وتكلّمنا أيديهم).(6) (ختم الله على قلوبهم، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة).(7) ومن هنا يعلم أنّ الذين شكّكوا في دلالة هذه الآية على كون نبي الإسلام (ص)خاتم الأنبياء، وإنتهاء سلسلة الأنبياء به، غير مطّلعين على معنى هذه الكلمة تماماً، أو أنّهم تظاهروا بعدم الإحاطة والإطلاع عليها، وإلاّ فإنّ من له أدنى إحاطة بآداب العرب يعلم أنّ كلمة "خاتم النّبيين" تدلّ على الخاتمية. وإذا قيل - عند ذاك - في تفسير هذه الآية غير هذا التّفسير فإنّه تفسير متطفّل غير متّزن، كأن نقول: إنّ نبي الإسلام كان خاتم الأنبياء، أي أنّه زينة الأنبياء، لأنّ الخاتم آلة زينة للإنسان، ولا يمكن أن يوازي الإنسان في المرتبة مطلقاً، وإذا فسّرنا الآية بهذا التّفسير فسنكون قد حططنا من مقام النّبي (ص)، وأنزلنا منزلته إلى أدنى المستويات، مع إنّه لا يناسب المعنى اللغوي، ولذلك فإنّ هذه الكلمة حيثما إستعملت في القرآن الكريم - في ثمانية موارد - فإنّها أعطت معنى الإنهاء والإغلاق. 2- أدلّة كون نبيّ الإسلام خاتماً للأنبياء: بالرغم من أنّ الآية المذكورة كافية لوحدها في إثبات هذا المطلب، إلاّ أنّ الدليل على كون نبي الإسلام (ص) خاتماً للأنبياء لا ينحصر بها، فإنّ آيات اُخرى في القرآن الكريم تشير إلى هذا المعنى، إضافةً إلى الروايات الكثيرة الواردة في هذا الباب: فمن جملتها في الآية ( رقم 19) من سورة الأنعام: (واُوحي إليّ هذا القرآن لاُنذركم به ومن بلّغ) فإنّ سعة مفهوم تعبير (ومن بلغ) توضّح رسالة القرآن ونبي الإسلام العالمية من جهة، ومسألة الخاتمية من جهة اُخرى. وهناك آيات اُخرى تثبت عمومية دعوة نبي الإسلام لكلّ البشر، مثل: (تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً).(8) وكقوله تعالى: (وما أرسلناك إلاّ كافّة للناس بشيراً ونذيراً).(9) والآية: (قل ياأيّها الناس إنّي رسول الله إليكم جميعاً).(10) إنّ ملاحظة سعة مفهوم "العالمين" و "الناس" و "الكافّة" تؤيّد هذا المعنى أيضاً. إضافةً إلى أنّ إجماع علماء الإسلام من جهة، وكون هذه المسألة ضرورية لدى المسلمين من جانب آخر، والروايات الكثيرة الواردة عن النّبي (ص) وباقي أئمّة الهدى (ع) من جانب ثالث توضّح هذا المطلب، ونكتفي هنا بذكر بعضها من باب الشاهد والمثال: 1- ورد في الحديث المعروف عن النّبي (ص): "حلالي حلال إلى يوم القيامة، وحرامي حرام إلى يوم القيامة"(11). إنّ هذا التعبير مبيّن لإستمرار هذه الشريعة حتّى نهاية العالم وفنائه. وقد روي هذا الحديث بهذه الصيغة أحياناً: "حلال محمّد حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة، لا يكون غيره، ولا يجيء غيره"(12). 2- حديث المنزلة المعروف، والذي ورد في مختلف كتب الشيعة والسنّة، وهو في شأن علي (ع) وبقائه مكان النّبي في المدينة عندما توجّه (ص) إلى غزوة تبوك، فإنّه يوضّح مسألة الخاتمية تماماً، لأنّا نقرأ في هذا الحديث أنّ النّبي (ص)قال لعلي(ع): "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي"(13). 3- وثمّة حديث مشهور أيضاً، وقد روي في كثير من مصادر العامّة، وذلك أنّ النّبي (ص) قال: "مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى بنياناً فأحسنه وأجمله، فجعل الناس يطيفون به يقولون ما رأينا بنياناً أحسن من هذا إلاّ هذه اللبنة، فكنت أنا تلك اللبنة". لقد ورد هذا الحديث في صحيح مسلم بعبارات مختلفة، وروي عن رواة عديدين، وقد وردت هذه الجملة "وأنا خاتم النّبيين" في ذيل الحديث الآنف الذكر في أحد الموارد. ونرى في نهاية حديث آخر: "جئت فختمت الأنبياء"(14). وقد ورد هذا الحديث أيضاً في صحيح البخاري - كتاب المناقب - ومسند أحمد بن حنبل، وسنن الترمذي والنسائي وكتب اُخرى، وهو من الأحاديث المعروفة والمشهورة جدّاً، وقد أورده مفسّرو الفريقين كالطبرسي في مجمع البيان، والقرطبي في تفسيره، في ذيل الآية مورد البحث. 4- لقد ورد كون نبيّ الإسلام (ص) خاتماً للنبيين صريحاً في كثير من خطب نهج البلاغة، ومن جملة ذلك ما نراه في الخطبة 173 في وصف نبيّ الإسلام (ص)، حيث يقول (ع): "أمين وحيه، وخاتم رسله، وبشير رحمته، ونذير نقمته". وجاء في الخطبة 133: "أرسله على حين فترة من الرسل، وتنازع من الألسن. فقفّى به الرسل، وختم به الوحي". وقال (ع) في الخطبة الاُولى من نهج البلاغة، بعد أن عدّد تعليمات الأنبياء الماضين: "إلى أن بعث الله سبحانه محمّداً رسول لإنجاز عدته، وإتمام نبوّته". 5- وقد وردت مسألة الخاتمية في ختام خطبة الوداع، تلك الخطبة التي ألقاها نبيّ الإسلام (ص) في آخر حجّة له، وفي آخر سنة من عمره المبارك، كوصيّة جامعة للناس، حيث قال: "ألا فليبلّغ شاهدكم غائبكم لا نبيّ بعدي، ولا اُمّة بعدكم" ثمّ رفع يديه إلى السماء حتّى بان بياض إبطيه، فقال: "اللهمّ اشهد أنّي قد بلّغت"(15). 6- وجاء في حديث آخر ورد في "الكافي" عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: "إنّ الله ختم بنبيّكم النبيّين فلا نبيّ بعده أبداً، وختم بكتابكم الكتب فلا كتاب بعده أبداً"(16). إنّ الأحاديث الواردة في هذا الباب كثيرة جدّاً، بحيث جمع منها في كتاب (معالم النبوّة) 135 حديثاً من كتب علماء الإسلام عن النّبي (ص) وأئمّة الإسلام العظام(17). 3- إجابة عن عدّة أسئلة: 1- كيف تتناسب الخاتمية مع سير الإنسان التكاملي؟ السوال الأوّل الذي يطرح في هذا البحث هو: هل يمكن أن يتوقّف المجتمع الإنساني؟ أترى يوجد لسير البشر التكاملي حدّ محدود؟ ألسنا نرى باُمّ أعيننا أنّ بشر اليوم قد وصلوا في العلم والثقافة إلى مرحلة تفوّق مستوى سابقيهم؟ فمع هذا الحال كيف يمكن أن يغلق سجل النبوّة مطلقاً، فيحرم الإنسان من قيادة أنبياء جدد في سيره التكاملي؟ إنّ الإجابة عن هذا السؤال تتّضح بالإلتفات إلى مسألة واحدة، وهي أنّ الإنسان يصل أحياناً إلى مرتبة من النضج الفكري والثقافي بحيث يكون قادراً على الإستمرار في طريقه بالإستعانة المستمرة بالاُصول والتعليمات التي تركها له النّبي الخاتم بصورة جامعة، دون أن يحتاج إلى شريعة جديدة. وهذا الأمر يشبه تماماً أن يكون الإنسان محتاجاً لمعلّم جديد ومربّ آخر في كلّ مرحلة من مراحل الدراسة المختلفة، حتّى يقضي المراحل المختلفة، أمّا إذا حصل على الدكتوراه، أو أصبح مجتهداً له رأيه في العلم أو العلوم المختلفة فإنّه لا يحتاج في دراسته إلى اُستاذ جديد، بل يباشر البحث والمطالعة والتحقيق إستناداً إلى ما اكتسبه من الأساتذة السابقين، وخاصّة اُستاذه الأخير. وبتعبير آخر، فإنّه يحلّ المشاكل والعقبات التي تعترضه بالإستعانة بتلك الاُصول الكليّة التي تعلّمها من اُستاذه الأخير، وبناءً على هذا فلا حاجة لأنّ يظهر دين جديد على مرّ الزمان (تأمّلوا ذلك). وببيان آخر، فإنّ كلّ واحد من الأنبياء السابقين قد مهّد جانباً من مسير التكامل ليكون الإنسان قادراً على سلوك هذا الطريق الصعب نحو التكامل وينال الأهلية لإستقبال منهج كامل وجامع لهذا الطريق على يد آخر نبي اُرسل من قِبل الله تعالى. من البديهي أنّه مع إستلام الخريطة الكاملة والمخطّط الجامع سوف لا تكون هناك حاجة إلى مخطّط آخر، وهذا في الحقيقة هو التعبير الذي ورد في الرّوايات الدالة على كونه (ص) خاتماً، والتي عدّت نبيّ الإسلام آخر لبنة، أو واضع آخر لبنة في قصر الرسالة البديع المحكم. وكلّ ذلك يؤكّد عدم الحاجة إلى دين جديد وشريعة مستحدثة. أمّا فيما يتعلّق بمسألة القيادة والإمامة، والتي تعني الإشراف التامّ على تنفيذ هذه الاُصول، والأخذ بأيدي الناس في هذا الطريق، فهي مسألة اُخرى لا يمكن أن يستغني الإنسان عنها في أيّ حين، ولذلك فإنّ ختام سلسلة النبوّة لا يعني أبداً نهاية سلسلة الإمامة، لأنّ "تبيين" و "توضيح" هذه الاُصول و "تحقّقها في الخارج" لا يمكن أن يتمّ من دون الإستعانة بوجود قائد وإمام معصوم. 2- كيف تتلاءم القوانين الثابتة مع الحاجات المتغيّرة؟ بغضّ النظر عن مسألة السير التكاملي للبشر، فإنّ هناك سؤالا آخر يطرح هنا، وهو: أنّنا نعلم أنّ مقتضيات الأزمنة والأمكنة ومتطلباتها متفاوتة، وبتعبير آخر فإنّ حاجات الإنسان في تغيّر مستمر، في حين أنّ للشريعة الخاتمة قوانين ثابتة، فهل تقوى هذه القوانين الثابتة على أن تؤمّن حاجات الإنسان المتغيّرة على مدى الزمان؟ ويمكن الإجابة على هذا السؤال جيداً بملاحظة المسألة التالية، وهي: أنّه لو كانت لكلّ قوانين الإسلام صفة الجزئية، وأنّها قد عيّنت لكلّ موضوع حكماً جزئياً معيناً لكان هناك مجال لهذا السؤال، أمّا إذا عرفنا بأنّ في تعليمات الإسلام سلسلة من الاُصول الكلية الواسعة جدّاً، والتي تقدر على أن تطابق الحاجات المتغيّرة وتؤمّنها، فلا يبقى مجال لهذا الإشكال. إنّنا نرى إستحداث سلسلة من الإتّفاقيات الجديدة والروابط الحقوقية بين البشر لم يكن لها وجود في عصر نزول القرآن بتاتاً، فمثلا لم يكن في ذلك العصر شيء اسمه "الضمان" بفروعه المتعدّدة(18)، وكذلك أنواع الشركات التي ظهرت في عصرنا وزماننا حسب الإحتياج اليومي، لكن يوجد لدينا في الإسلام أصل عامّ ورد في بداية سورة "المائدة" بعنوان "لزوم الوفاء بالعهد والعقد": (ياأيّها الذين آمنوا اُوفوا بالعقود) وهو قادر على احتواء كلّ هذه الإتفاقيات. وطبعاً هناك قيود وشروط بصورة عامّة وضعت لهذا الأصل العامّ في الإسلام، يجب أن تؤخذ بنظر الإعتبار أيضاً. بناءً على هذا فالقانون الكلّي ثابت في هذا الباب بالرغم من أنّ مصاديقه متغيّرة، فلا مانع من أن يظهر مصداق جديد له في كلّ يوم. ونضرب مثالا آخر، وهو: لدينا في الإسلام قانون مسلّم به، وهو قانون (لا ضرر) يمكن من خلاله تحديد أيّ حكم يكون منبعاً ومصدراً للضرر والخسارة في المجتمع، وعن هذا الطريق ترفع كثير من الإحتياجات. إضافة إلى أنّ مسائل "لزوم حفظ المجتمع"، و "وجوب مقدّمة الواجب"، و "تقديم الأهمّ على المهمّ" يمكن أن تكون حلا للمشاكل في كثير من الموارد. وعلاوة على كلّ ذلك فإنّ الصلاحيات التي تمنح للحكومة الإسلامية عن طريق "ولاية الفقيه" تضع تحت تصرفها إمكانيات واسعة لحلّ المشاكل في إطار اُصول الإسلام العامّة. إنّ بيان كلّ واحد من هذه الاُمور، مع الأخذ بنظر الإعتبار كون باب الإجتهاد - أي إستنباط الأحكام الإلهية من المصادر الإسلامية - يحتاج إلى بحث واسع يبعدنا تناوله عن الموضوع ولكن مع ذلك فإنّ ما أوردناه هنا من باب الإشارة يمكن أن يكون جواباً للإشكال المذكور. 3- كيف يحرم البشر من فيض الإرتباط بعالم الغيب؟ السؤال الآخر هو: إنّ نزول الوحي والإتّصال بعالم الغيب وما وراء الطبيعة يعتبر نافذة أمل لكلّ المؤمنين الحقيقيين، إضافةً إلى أنّه موهبة وفخر لعالم البشرية، ألا يعتبر قطع طريق الإتّصال هذا، وغلق نافذة الأمل هذه حرماناً عظيماً للبشر الذين يعيشون بعد وفاة خاتم الأنبياء؟ إنّ الإجابة على هذا السؤال تتّضح بملاحظة النقطتين أدناه، وهما: الاُولى: إنّ الوحي والإرتباط بعالم الغيب وسيلة لإدراك الحقائق ولمّا بُيّنت كلّ الإحتياجات والحقائق إلى يوم القيامة في الاُصول العامّة والتعليمات الجامعة التي وضعها خاتم النّبيين، ولذلك فإنّ قطع طريق الاتّصال هذا لا يوجد مشكلة. الثّانية: إنّ ما يقطع إلى الأبد بعد ختم النبوّة هو الوحي لشريعة جديدة، أو لتكميل شريعة سابقة، لا كلّ أنواع الإتّصال بما وراء عالم الطبيعة، لأنّ للأئمّة إرتباطاً بعالم الغيب، وكذلك المؤمنون الحقيقيون الذين أزالوا الحجب عن قلوبهم ووصلوا إلى مقام المكاشفة والشهادة نتيجة تهذيبهم أنفسهم. يقول الفيلسوف الشهير "صدر المتألّهين الشيرازي" في مفاتيح الغيب: "واعلم، أنّ الوحي إذا إنقطع، وباب الرسالة إذا انسدّ إستغنى الناس عن الرسل وإظهار الدعوة بعد تصحيح الحجّة وإكمال الدين، كما قال الله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم) وأمّا باب الإلهام فلا ينسدّ، ومدد نور الهداية لا ينقطع لإحتياج الناس لإستغراقهم في هذه الوساوس إلى التنبيه والتذكير، والله تعالى غلق باب الوحي وفتح باب الإلهام رحمة منه على عباده"(19). إنّ هذا الإرتباط يتولّد عادةً من سموّ النفس وإرتقاء الروح وتصفيتها وصفاء الباطن، ولا علاقة لها بمسألة النبوّة والرسالة، وبناءً على هذا فمتى ما تحقّقت مقدّماته وشروطه وجدت هذه الرابطة المعنوية، وبذلك فلم يكن أيّ بشر محروماً من هذا الفيض العظيم، ولن يكون - تأمّلوا ذلك -. ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ﴾ فليس أبا زيد فلا يحرم عليه نكاح مطلقته ﴿وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ﴾ والرسول أبو أمته في وجوب تعظيمهم له أو نصحه لهم وليس بينه وبينهم ولادة وزيد منهم ﴿وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ ومنه أنه لا نبي بعده.