لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
سبب النّزول قلنا في تفسير الآيتين 28 و29 من هذه السورة وبيان سبب النّزول: إنّ جمعاً من نساء النّبي - بناءً على ما نقله المفسّرون - قلن للنبيّ (ص): زد في نفقتنا واُمور معاشنا - طمعاً في الغنائم الحربية، فكنّ يحسبن أنّ قسماً كبيراً منها من نصيبهنّ فنزلت الآيات المذكورة وخاطبتهنّ بصراحة بأنهنّ إن أردن الحياة الدنيا وزينتها فليفارقن النّبي إلى الأبد، وإن أردن الله ورسوله واليوم الآخر فليعشن معه حياة بسيطة. إضافةً إلى أنّه كانت بينهنّ منافسة في كيفية تقسيم أوقات حياة النّبي (ص)بينهنّ، وكنّ يحرجن النّبي ويضايقنه مع كلّ المشاكل والمشاغل التي كانت لديه، ومع أنّ النّبي (ص) كان يراعي العدالة بينهنّ ويبذل الجهد اللازم لتحقيقها تماماً، فقد كان لغطهنّ وجدالهنّ مستمرّاً، فنزلت هذه الآية وجعلت النّبي (ص) حرّاً في تقسيم أوقاته، ثمّ أعلنت الآية لهنّ أنّ هذا حكم إلهي لئلاّ يتولّد في أنفسهن أي قلق وسوء ظنّ(1). التّفسير حلّ مشكلة اُخرى في حياة النّبي: إنّ قائداً ربّانياً عظيماً كالنّبي (ص) خاصّة وأنّه ابتلي بسيل من الحوادث الصعبة المرّة، وكانوا يحوكون له الدسائس والمؤامرات داخلياً وخارجياً، لا يقدر أن يشغل فكره بحياته الخاصّة كثيراً، بل يجب أن يكون له هدوء نسبي في حياته الداخلية ليقوى على التفرّغ لحلّ سيل المشاكل التي أحاطت به من كلّ جانب. إنّ اضطراب الحياة الشخصية، وكون قلبه وفكره مشغولين بوضعه العائلي في هذه اللحظات المضطربة الحسّاسة كان أمراً خطيراً للغاية. ومع أنّ زواج النّبي (ص) المتعدّد - وطبقاً للبحوث السابقة، والوثائق والمستندات التي أوردناها في تفسير الآية السابقة - كانت له أبعاد سياسية وإجتماعية وعاطفية غالباً، وكان في الحقيقة جزءاً من تنفيذ وتطبيق رسالة الله سبحانه، إلاّ أنّ الإختلاف بين زوجات النّبي، والمنافسة النسوية المعروفة بينهنّ، قد أثار في الوقت نفسه عاصفة من الإضطراب داخل بيت النّبي ممّا شغل فكره وزاد في همّه. هنا منح الله سبحانه نبيّه إحدى الخصائص الاُخرى، وأنهى هذه الحوادث والأخذ والعطاء في الجدل إلى الأبد، وأراح فكر النّبي (ص) من هذه الجهة، وهدأ خاطره وروعه، فقال سبحانه في هذه الآية (ترجي من تشاء منهنّ وتؤوي إليك من تشاء). "ترجي" من (الإرجاء)، أي: التأخير، و "تؤوي"، من (الإيواء) ويعني إستضافة شخص في بيتك. ونعلم أنّ أحكام الإسلام في شأن الزوجات المتعدّدة تقضي بأن يقسم الزوج أوقاته بينهنّ بصورة عادلة، فإن بات ليلة عند واحدة، فيجب أن يبيت الليلة الاُخرى عند غيرها، إذ لا فرق ولا إختلاف بين النساء من هذه الجهة، ويعبّرون عن هذا الموضوع في الكتب الفقهيّة الإسلامية بـ "حقّ القَسَم". فكانت إحدى مختّصات النّبي (ص) هي سقوط رعاية حقّ القسم منه بحكم الآية أعلاه، وذلك نتيجة للظروف الخاصّة التي كان يعيشها، والأوضاع المضطربة التي كانت تحيط به من كلّ جانب، وخاصّة أنّ الحرب كانت تُفرض عليه كلّ شهر تقريباً، وكان له في نفس الوقت زوجات متعدّدة، وبسقوط هذا الواجب عنه فقد كان قادراً على أن يقسم أوقاته كيف يشاء، غير أنّه (ص) كان يراعي تحقيق العدالة ما أمكن رغم هذه الظروف، كما جاء ذلك في التواريخ الإسلامية صريحاً. إلاّ أنّ وجود هذا الحكم الإلهي قد منح نساء النّبي الراحة والإطمئنان، وأضفى على حياته الداخلية الهدوء والسكينة. ثمّ تضيف الآية: وعندما ترغب عن إحداهن وتعتزلها، ثمّ ترغب فيها فلا تثريب عليك: (ومن ابتغيت ممّن عزلت فلا جناح عليك). وبهذا فليس الخيار بيدك في البداية وحسب، بل إنّه بيدك حتّى في الأثناء أيضاً، وهو في الإصطلاح "تخيير إستمراري" لا إبتدائي، وبهذا الحكم الواسع ستقطع كلّ الحجج من برنامج حياتك فيما يتعلّق بأزواجك، وتستطيع أن تسخّر فكرك لمسؤوليات الرسالة العظيمة الثقيلة. ومن أجل أن تعلم نساء النّبي بأنهنّ إن أذعنّ لأمر الله تعالى في مسألة تقسيم أوقات النّبي (ص) فإنّه يعتبر وسام فخر لهنّ يضاف إلى الفخر بكونهنّ أزواج النّبي (ص)، إذ أنّ هذا التسليم نوع من التضحية والإيثار، وليس فيه أيّ عيب وإنتقاص، ولذلك يضيف سبحانه: (ذلك أدنى أن تقرّ أعينهنّ ولا يحزنّ ويرضين بما آتيتهنّ كلّهن). وذلك أوّلا: لأنّ هذا الحكم عامّ يشملهنّ جميعاً ولا يتفاوتن فيه، وثانياً: إنّ الحكم الذي يشرع من جانب الله سبحانه إنّما يشرع لمصلحة مهمّة، وبناءً على هذا فيجب الإذعان له برغبة ورضا، فينبغي مضافاً إلى عدم القلق والتأثّر أن يفرحن لذلك. لكن النّبي (ص) - وكما أشرنا إلى ذلك - كان يراعي تقسيم أوقاته بينهنّ بعدالة قدر المستطاع، إلاّ في الظروف الخاصّة التي كانت توجب عدم التسوية وتحتّمه، وكان هذا بحدّ ذاته مطلباً آخر يبعث على ارتياحهنّ، لأنّهنّ كنّ يرين أنّ النّبي (ص)يسعى للتسوية بينهنّ مع كونه مخيّراً. وأخيراً ينهي المطلب بهذه الجملة: (والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليماً حليماً) لا يستعجل في إنزال العقاب بالمذنبين. أجل... إنّ الله يعلم بأيّ حكم قد رضيتم، وله أذعنتم بقلوبكم، وعن أي حكم لم ترضوا. وهو سبحانه يعلم إلى مَن أكثر من أزواجكم، ومن منهنّ تحظى بإهتمام أقل، ويعلم كيف تراعون حكمه وتنفّذوه مع هذا الإختلاف في الميول والرغبات. وكذلك يعلم سبحانه مَن هم الذين يجلسون جانباً، ويعترضون على أحكام الله في شأن النّبي (ص)، ويعارضونها بقلوبهم، ويعلم مَن هو الذي يرضى عن هذه الأحكام ويتقبّلها بدون إعتراض. بناءً على هذا فإنّ تعبير (قلوبكم) واسع يشمل النّبي (ص) وأزواجه، ويشمل كلّ المؤمنين الذين يقبلون بهذه الأحكام، أو الذين يعترضون عليها وينكرونها وإن لم يبدوا هذا الإعتراض والإنكار. ملاحظة هل كان هذا الحكم في حقّ كلّ نساء النّبي: لقد كانت هذه المسألة موضع بحث في الفقه الإسلامي في باب خصائص النّبي(ص) بأنّ تقسيم الأوقات بين الزوجات المتعدّدة بالتساوي هل يجب على النّبي(ص) كما يجب على عامّة المسلمين، أم أنّ النّبي كان له حكم التخيير الإستثنائي؟ المعروف والمشهور بين فقهائنا وعند جمع من فقهاء العامّة أنّه (ص) كان مستثنى من هذا الحكم، ويعدّون الآية المذكورة أعلاه دليلا على ذلك، فهي تقول: (ترجي من تشاء منهنّ وتؤوي إليك من تشاء) لأنّ جعل هذه الجملة بعد البحث حول كلّ نساء النّبي يوجب أن يعود ضمير (هنّ) عليهنّ جميعاً، وهذا مطلب مقبول من جانب الفقهاء وكثير من المفسّرين. إلاّ أنّ البعض يرى أنّ الضمير أعلاه يتعلّق بالنساء اللاتي وهبن أنفسهنّ للنبي بدون مهر. في حين أنّه لم يثبت تاريخياً أنّ هذا الحكم قد تحقّق في الخارج، وأنّ له موضوعاً ومصداقاً أم لا. والبعض يرى أنّ النّبي لم يتزوّج على هذه الشاكلة إلاّ امرأة واحدة. وعلى كلّ حال، فإنّ أصل المسألة لم يثبت من الناحية التاريخية هذا أوّلا. ثانياً: إنّ هذا التّفسير خلاف الظاهر، ولا يتناسب مع سبب النّزول الذي ذكروه لهذه الآية، وبناءً على هذا فيجب قبول الحكم المذكور عاماً. ﴿تُرْجِي﴾ تؤخر ﴿مَن تَشَاء مِنْهُنَّ﴾ من أزواجك فلا تضاجعها ﴿وَتُؤْوِي﴾ تضم ﴿إِلَيْكَ مَن تَشَاء﴾ وتضاجعها أو تطلق من تشاء وتمسك من تشاء ﴿وَمَنِ ابْتَغَيْتَ﴾ طلبت ﴿مِمَّنْ عَزَلْتَ﴾ تركتها ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ﴾ في ذلك كله ﴿ذَلِكَ﴾ التفويض إلى مشيئتك ﴿أَدْنَى﴾ أقرب إلى ﴿أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ﴾ لاستوائهن في هذا الحكم ﴿كُلُّهُنَّ﴾ تأكيد من فاعل يرضين ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ فلا تسروا ما يسخطه ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا﴾ بخلقه ﴿حَلِيمًا﴾ لا يعاجل بالعقوبة.