التّفسير
أقسم بالله لتأتينكم القيامة:
تتعرّض الآيات مورد البحث إلى موضع التوحيد وصفات الله في نفس الوقت الذي تهيء أرضيّة لموضوع المعاد، لأنّ مشكلات (بحث المعاد) لا يمكن حلّها إلاّ عن طريق العلم اللامتناهي للباريّ عزّوجلّ، كما سنرى.
لذا فإنّ الآيات مورد البحث تبدأ أوّلا بقوله تعالى: (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة).
فما هو إلاّ كذب وإفتراء، بل إنّ القيامة لا تأتي أحداً من الناس.
ويريدون بذلك الفكاك والتحرّر من قيود هذه الإعتقادات; الحساب والكتاب والعدل والجزاء، ليرتكبوا ما يحلوا لهم من الأعمال.
ولكنّ القرآن بناءً على وضوح أدلّة القيامة يخاطب الرّسول الأكرم (ص)بصورة حاسمة وفي معرف بيان النتيجة، فيقول: (قل بلى وربّي لتأتينكم).
والتركيز على كلمة "ربّ" لأنّ القيامة في الأصل من شؤون الربوبية.
فكيف يمكن أن يكون الله مالكاً ومربياً للبشر يقودهم في سيرهم التكاملي، ثمّ يتخلّى عنهم في منتصف الطريق لينتهي بالموت كلّ شيء، فتكون حياتهم بلا هدف وخلقهم هباءً وبلا معنى.
وقد ركّز القرآن في الآية السابعة من سورة التغابن أيضاً على هذا الوصف، فقال تعالى: (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربّي لتبعثنّ ثمّ لتنبئنّ بما عملتم).
وبما أنّ أحد إشكالات الكافرين بالمعاد، هو شكّهم - من جانب - في إمكانية جمع وإعادة بناء أعضاء الإنسان الميّت بعد تبعثرها وتفسّخها في التراب.
وكذلك - من جانب آخر - في إمكانية وجود من يمكنه النظر في جميع أعمال العباد التي عملوها في السرّ والعلن والظاهر والباطن، لذا فإنّ الله تعالى يضيف في تتمّة الآية الكريمة (عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلاّ في كتاب مبين)(1).
ولذا، فلا يغيب عن علمه تبعثر ذرّات جسم الإنسان في التراب، ولا إختلاطها بسائر الموجودات، ولا حتّى حلولها في أبدان اُناس آخرين عن طريق الغذاء، ولا يشكّل مشكلة أمام إعادة بنائه من جديد... وأعمالهم في هذه الدنيا تبقى محفوظة أيضاً، وإن تغيّر شكلها، فهو سبحانه المحيط بها علماً.
وقد ورد نظير هذا التعبير في الآيات الثالثة والرّابعة من سورة (ق) في قوله تعالى: (أإذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد، قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ).
ولكن ما هو المقصود من "الكتاب المبين"؟
أغلب المفسّرين قالوا بأنّه "اللوح المحفوظ" ولكن السؤال هو: ما هو اللوح المحفوظ؟!
وكما ذكرنا سابقاً فإنّ أقرب تفسير (للّوح المحفوظ)، هو "لوح العلم الإلهي اللامتناهي" نعم في ذلك اللوح ضُبط وقُيّد كلّ شيء، بدون أن يجد التغيير والتبديل طريقه إليه.
وعالم الوجود المترامي الأطراف، هو الآخر إنعكاس عن ذلك اللوح المحفوظ، بلحاظ أنّ كلّ ذرّات وجودنا وكلّ أقوالنا وأفعالنا، تبقى محفوظة فيه، وإن كانت الظواهر تتغيّر، لكنّها لا تخرج عن حدّها أبداً.
ثمّ يوضّح تعالى الهدف من قيام القيامة في آيتين، أو بتعبير آخر إعطاء الدليل على لزوم مثل ذلك العالم بعد عالمنا الحالي لمنكري القيامة، فيقول تعالى: (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات اُولئك لهم مغفرة ورزق كريم).
فإن لم يُجازِ المؤمنين بصالح عملهم ثواباً، أفلا يعني ذلك تعطيل أصل العدالة الذي هو أهم أصل من اُصول الخلقة؟ وهل يبقى معنى لعدالة الله بدون ذلك المفهوم؟! في الوقت الذي نرى أنّ أغلب هؤلاء الأفراد الصالحين، لا يتلقون جزاء أعمالهم الحسنة في هذه الدنيا أبداً، إذن لابدّ من عالم آخر لكي يتحقّق فيه هذا الأصل.
تقديم "المغفرة" على "الرزق الكريم" ربّما كان سببه: أنّ أشدّ ما يقلق المؤمنين هو الذنوب التي إرتكبوها، لذا فإنّ الآية تطمئنهم بعرض المغفرة عليهم أوّلا، فضلا عن أنّ من لم يغتسل بماء المغفرة الإلهية لن يكون أهلا (للرزق الكريم) والمقام الكريم!
(الرزق الكريم) يشمل كلّ رزق ذي قيمة، ومفهوم ذلك واسع إلى درجة أنّه يشمل كلّ المواهب والعطايا الإلهية، ومنها ما لا عين رأت ولا اُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وبتعبير آخر فإنّ "الجنّة" بكلّ نعمها المعنوية والماديّة جمعت في هذه الكلمة، والبعض فسّر "الكريم" بأمرين: الجيد والخالي من المنغّصات، ولكن يبدو أنّ مفهوم الكلمة أوسع من ذلك بكثير.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ﴾ إنكار لمجيئها ﴿قُلْ بَلَى﴾ رد لقولهم ﴿وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ﴾ لا يغيب ﴿عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ﴾ زنة أصغر نملة ﴿فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ﴾ رفعا بالابتداء لا بالعطف على مثقال لقوله ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ بين هو اللوح.