التّفسير
فيما سبق من آيات كتاب الله سبحانه تبيّن ثلاث مجموعات هي: مجموعة المتقين، ومجموعة الكافرين، ومجموعة المنافقين، فالمتقون هم المشمولون بالهداية الإِلهية، والمنافقون هم الذين طبع الله على قلوبهم، والمنافقون هم المرضى الذين زادهم الله مرضاً، وفقدوا قدرة التشخيص نتيجة أعمالهم.
أمّا الآيات المذكورة فدعت النّاس إلى انتخاب طريق المجموعة الاُولى، وإلى عبادة الله الواحد الأحد.
وفي الآية الكريمة: ﴿يَا أيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ عدة ملاحظات نشير إليها فيما يلي:
1 - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ تكرر في القرآن عشرين مرّة تقريباً، وهو نداء عام شامل يشير إلى أن القرآن لا يختص بعنصر أو قبيلة أو طائفة أو فئة خاصة، بل يوجّه دعوته إلى البشرية عامة لعبادة الله، وللثورة على كل ألوان الشرك والإنحراف عن طريق التوحيد.
2 - يركّز القرآن، في دعوته إلى عبادة الله وإلى شكر الله، على نعمة خلق البشر.
وهي نعمة تتجلى فيها قدرة الله كما يتجلى فيها علم الله وحكمته وكذلك رحمته العامة والخاصّة.
لأن الموجود البشري سيّد الموجودات، ومظهر علم الله وقدرته اللامتناهية ونعمه الكثيرة الواسعة.
أُولئك الذين يستنكفون عن عبادة الله والخضوع له، غافلون غالباً عن العظمة المنطوية في خلقهم وخلق الذين من قبلهم، وعن اليد المدبّرة المقدّرة التي أوجدت هذا الخلق، وأودعت فيه النعم الدقيقة المدروسة المتجلية في جسم الإنسان وروحه.
فالتذكير بهذه النعم دليل لمعرفة الله، ومحرك للشكر على هذه النعم.
3 - نتيجة هذه العبادة هي التقوى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ فعباداتنا لا تزيد الله عظمة يوجلا، كما أن إعراضنا عن العبادة لا ينقص من عظمة الله شيئاً.
هذه العبادات مدرسة لتعليم التقوى، والتقوى هي الإحساس بالمسؤولية والمحرّك الذاتي للفرد، وهي معيار قيمة الإنسان وميزان تقييم شخصيته.
4 - عبارة: ﴿أَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ لعلها ردّ على استدلال المشركين الذين برروا عبادتهم للأصنام بتمسكهم بسنة آبائهم.
والآية الكريمة تشير بهذه العبارة إلى أن الله الواحد الأحد، خالق البشر وخالق آبائهم، وكل شرك يعتري المسيرة البشرية في حاضرها وسالفها هو إنحراف عن الخط الصحيح.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ لما ذكر تعالى فرق المكلفين وأحوالهم التفت إليهم بالخطاب تنشيطا للسامع وروي أن لذة النداء أزالت مشقة التكليف ﴿اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أي خلقكم لتتقوه أي تعبدوه أو لعلكم تتقون النار ولعل من الله واجب.