لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
فمن جملة مطالبهم العجيبة من الله، (فقالوا ربّنا باعد بين أسفارنا). أي طلبوا أن يجعل الله المسافات بين قراهم طويلة، كي لا يستطيع الفقراء السفر جنباً إلى جنب مع الأغنياء، ومقصودهم هو أن تكون بين القرى - كما أسلفنا - فواصل صحراوية شاسعة، حتّى لا يستطيع الفقراء ومتوسّطو الحال الإقدام على السفر بلا زاد أو ماء أو مركّب، وبذا يكون السفر أحد مفاخر الأغنياء وعلامة على القدرة والثروة، ووجوب أن يظهر هذا الإمتياز ويثبت لدى الجميع. أو أنّهم ملّوا من الراحة والرفاه، كما ملّ بنو إسرائيل من (المنّ والسلوى) (الغذاء السماوي) وطلبوا من الله البصل والثوم والعدس. بعضهم إحتمل أيضاً أن يكون المقصود بعبارة (باعد بين أسفارنا) أنّهم أصبحوا كسالى إلى درجة لم يكونوا معها حاضرين للسفر لغرض رعي الحيوانات أو التجارة أو الزراعة، ولذا طلبوا من الله أن يبقيهم في وطنهم دائماً ويباعد بين السفرة والاُخرى. ولكن يبدو أنّ التّفسير الأوّل أفضل. على كلّ حال فإنّهم بهذا العمل أوقعوا الظلم على أنفسهم (وظلموا أنفسهم). نعم، فإن كانوا يظنّون أنّهم إنّما يظلمون غيرهم فقد اشتبهوا، إذ أنّهم قد استلّوا خنجراً ومزّقوا به صدورهم، ودخّان النار التي أسعروها أعمى عيونهم. ويا له من تعبير رائع، ذلك الذي أوضح به القرآن الكريم مصيرهم المؤلم، حيث يقول: إنّنا جازيناهم ودمّرنا بلادهم ومعيشتهم بحيث: (فجعلنا أحاديث). نعم فلم يبق من تلك الحياة المرفّهة، والتمدّن العريض المشرق، إلاّ أخبار على الألسن، وذكريات في الخواطر، وكلمات على صفحات التاريخ (ومزّقناهم كلّ ممزّق). كيف دمّرنا أرضهم بحيث سلبت منهم معها قدرة البقاء فيها، وبذا أصبحوا مجبرين على أن يتفرّقوا كلّ مجموعة إلى جهة لإدامة حياتهم، ونُثروا كما تنثر أوراق الخريف التي عصفت بها الريح حتّى أضحى تفرّقهم مثلا يضرب فقيل: "تفرّقوا أيادي سبأ"(1). وكما قال بعض المفسّرين، فقد ذهبت قبيلة (غسّان) إلى الشام، و (أسد) إلى عمان، و (خزاعة) إلى جهة تهامة، و (أنمار) إلى يثرب(2). وفي ختام الآية يقول تعالى: (إنّ في ذلك لآيات لكلّ صبّار شكور)، لأنّ الصابرين والشاكرين وحدهم يستطيعون الإعتبار ممّا جرى، خصوصاً مع ملاحظة أنّ كلاًّ من (صبّار) و (شكور) هي صيغة مبالغة. ذلك لكونهم بصبرهم وإستقامتهم يتمكّنون من الإمساك بزمام مركب الهوى والهوس الجموح، ويقفون بوجه المعاصي، وبشكرهم لله تعالى في طريق طاعته فإنّهم مرتبطون به ويقظون، وعليه فإنّهم يأخذون العبرة بشكل جيّد، أمّا اُولئك الذين ركبوا سفينة الهوى وتجاهلوا نعم الله عليهم فكيف يمكنهم أخذ العبرة ممّا جرى؟ بحوث 1- المصير المذهل لقوم سبأ!! يستفاد ممّا ورد في القرآن الكريم والروايات، وكذلك كتب التاريخ، بأنّ "قوم سبأ" كانوا يقطنون جنوب الجزيرة، وكانت لهم حكومة راقية، وحضارة خلاّبة. ورغم أنّ أرض (اليمن) كانت واسعة وصالحة للزراعة، إلاّ أنّه من إستغلالها لعدم وجود نهر مهمّ في تلك المنطقة، كما أنّ مياه الأمطار - التي كانت تهطل بغزارة على قمم الجبال كانت تذهب هدراً في هضاب وصحاري تلك المنطقة. ولكن أهل تلك المنطقة الأذكياء فكّروا في كيفية الإستفادة من تلك المياه المهدورة، فبنوا لهذا الغرض عدداً من السدود في النقاط الحسّاسة كان أهمّها وأكثرها مخزوناً "سدّ مأرب". "مأرب" بلدة صغيرة تقع عند إنتهاء إحدى ممرّات السيول تلك، وكانت تمرّ سيول جبال "صراة" العظيمة من جنبها، وفي فم هذا المضيق وبين جبلي "بلق" بنوا سدّاً عظيماً قوياً، وأوجدوا فيه منافذ كثيرة للماء، وقد إستطاع هذا السدّ خزن كميّات هائلة من الماء خلفه إلى درجة أنّهم إستطاعوا - بالإستفادة من ذخيرته - إحداث جنّات جميلة جدّاً، وبساتين مملوءة بالبركة على طرفي النهر الوارد إبتداءً من مصبّ السدّ. وكما ذكرنا سابقاً فإنّ القرى المأهولة في تلك الأرض كانت شبه متّصلة ببعضها، بحيث أنّ ظلال الأشجار كانت تتواصل مع بعضها البعض، وكانت الأشجار محمّلة بكميّات كبيرة من الثمار حتّى أنّ من يمرّ تحتها بسلّته الخالية يخرج بعد مدّة قصيرة بسلّة ممتلئة تلقائياً، وفور النعمة - ممزوجاً بالأمان - هيّأ محيطاً مرفّهاً لحياة طاهرة، محيطاً نموذجياً لطاعة الله، والتكامل المعنوي، ولكنّهم لم يقدّروا النعمة حقّ قدرها، فنسوا الله، وجحدوا النعمة، وانشغلوا بالتفاخر والعناوين والمستوى الإجتماعي. ورد في بعض كتب التاريخ بأنّ الجرذان الصحراوية، بعيداً عن مرأى هؤلاء المغرورين السكارى، كانت تتّخذ لها جحوراً في ذلك السدّ الترابي، وتنخره من الداخل، وفجأةً هطلت أمطار غزيرة وتجمّعت لتشكّل سيولا عظيمة، تراكمت خلف ذلك السدّ الذي لم يعدّ حينها مؤهّلا لتحمّل الضغط الشديد من تلك الكمّيات الهائلة، وما هي إلاّ لحظة حتّى إنهار هذا السدّ ليضع النهاية لتلك الحياة الزاهية، ودمّر القرى المعمورة، الجنان، المزارع، المحاصيل، قضى على الحيوانات، هدّم القصور والبيوت الجميلة الجذّابة، وتحوّلت تلك الأرض الحيّة إلى صحراء جافّة لا ماء فيها ولا كلأ، ولم يبق من تلك الجنان والأشجار المثمرة إلاّ شجر (الأراك) المرّ، و (شجر المنّ) وقليل من (السدر)، وهاجرت الطيور المغردة ليحلّ محلّها البوم والغربان...(3). نعم، حينما يريد الله سبحانه وتعالى إظهار قدرته، فإنّه يدمّر مدينة راقية بعدد من الفئران حتّى يتّضح للعباد مدى ضعفهم ولا يغترّوا بقدرتهم مهما بلغت. 2- الإعجاز القرآني التأريخي أورد القرآن الكريم قصّة "قوم سبأ" في الوقت الذي كان المؤرخّون لا يعلمون شيئاً عن وجود هؤلاء القوم، وعن مثل تلك المدنيّة. والملفت للنظر أنّ المؤرخّين قبل الإكتشافات الحديثة، لم يذكروا شيئاً حول سلسلة ملوك سبأ والمدنية العظيمة لهم، وإعتقدوا فقط بأنّ (سبأ) هو شخص إفتراضي، عرف كأب مؤسّس لدولة "حمير"، في حين أنّ القرآن الكريم أفرد سورة كاملة باسم هؤلاء القوم وأشار إلى أحد مظاهر مدينتهم وهو بناؤهم (لسدّ مأرب) التأريخي. ولكن بعد الكشوف عن الآثار التأريخية لهؤلاء القوم في اليمن، تغيّرت أفكار علماء التأريخ. والسبب في تأخّر الكشف عن الآثار التأريخية لهؤلاء القوم يعود إلى: 1- صعوبة الطريق المؤدّية إلى مناطق التنقيب وشدّة حرارة الجو هناك. 2- تنفّر سكنة المنطقة حالياً من الأجانب، ممّا جعل الأوربيين غير المطّلعين وغير العارفين يطلقون صفة "التوحّش" على هذه الأحاسيس الصادرة من أهل المنطقة، حتّى إستطاع عدّة معدودة من علماء الآثار يدفعهم التعلّق الشديد بكشف الأسرار الأثرية النفوذ إلى قلب مدينة "مأرب" وما حولها. وإكتشفوا مجموعة من الأحجار الحاوية للخطوط والنقوش الكثيرة، وبعد ذلك تعاقبت مجاميع المنقّبين في القرن التاسع عشر الميلادي ناقلين معهم في كلّ مرّة مجموعة من النقوش والخطوط والآثار، وبالإستفادة من تلك الآثار، التي ناهزت الألف أثر، أطلع العلماء على جزئيات وخصوصيات حضارة هؤلاء القوم، وعلى تأريخ بناء "سدّ مأرب" وخصوصيات اُخرى، وثبت للغربيين بأنّ ما ذكره القرآن الكريم بهذا الخصوص لم يكن اُسطورة، بل واقع تاريخي لم يكونوا قد اطّلعوا عليه، وبعد ذلك إستطاعوا رسم مخطّط كامل لذلك السدّ العظيم وتشخيص منافذ عبور المياه فيه، والجداول الخاصّة بالبساتين والمزارع يميناً وشمالا وسائر خصوصيات المنطقة الاُخرى. 3- لفتات هامّة للعبرة في قصّة قصيرة إنّ التعرّض لسرد قصّة قوم سبأ بعد قصّة سليمان (ع) له مفهوم خاصّ: 1- إنّ داود وسليمان (ع) كانا نبيّين عظيمين إستطاعا تشكيل حكومة قويّة، وإيجاد حضارة مشرقة تلاشت بوفاتهم، وكذلك الحضارة الكبرى التي أقامها قوم سبأ تلاشت بإنهيار سدّ مأرب!! والجدير بالملاحظة أنّ الروايات تشير إلى أن عصا سليمان (ع) أكلتها حشرة "الأُرضة"، كما أنّ سدّ مأرب نخرته الجرذان الصحراوية، كي يعلم هذا الإنسان المغرور بأنّ النعم المادية مهما كانت عظيمة ومصدراً للخير، فإنّها أحياناً تتلاشى بواسطة حشرة أو حيوان ضعيف يقلب عاليها أسفلها. وبالنتيجة ينتبه المؤمنون والعارفون ولا يقعوا أسرى في شراك هذه النعم، ويفيق المغرورون من سُكر غفلتهم ولا يسلكوا طريق الظلم والعدوان. 2- نلاحظ هنا حضارتين عظيمتين، إحداهما رحمانية، والاُخرى شيطانية المصير، لكنّهما واجهتا الفناء ولم تخلدا. 3- وممّا يستحقّ الإنتباه، هو أنّ المغرورين من قوم سبأ الذين لم يستطيعوا تحمّل وجود المستضعفين بينهم، وتمنّوا حاجزاً منيعاً بين الأقليّة الأشراف والأكثرية الفقراء يحول دون إختلاطهم، ودعوا الله أن يباعد بين قراهم حتّى يشقّ السفر على الفقراء، وقد إستجاب الله سبحانه وتعالى دعاءهم وفرّق جمعهم، ومزّقهم أيادي سبأ، حتّى أنّهم لو أرادوا الإلتقاء لتطلّب منهم ذلك أن يصرفوا عمراً كاملا في السفر. 4- حينما يدقّق المتأمّل في وضع تلك الأرض قبل هجوم "سيل العرم" وبعده، لا يمكنه أن يصدّق بسهولة أنّ هذه الأرض بعد السيل هي تلك الأرض الخضراء المليئة بالأشجار المورقة المثمرة، وكيف أضحت الآن صحراء موحشة ليس فيها إلاّ بضعة أشجار مبعثرة من الشجر المرّ والأراك وقليل من شجر السدر تتراءى من بعيد كمسافرين أضاعوا طريقهم وتبعثروا هنا وهناك. وهذا يجسّد بلسان الحال: أنّ "كيان الإنسان" كهذه الأرض، فإذا إستطاع السيطرة على قواه الخلاّقة وإستخدمها بالشكل الصحيح، فإنّه ينبت بساتين مليئة بالطراوة من العلم والعمل والفضائل الأخلاقية، ولكن إذا كُسر سدّ التقوى، وإنهالت الغرائز كالسيل المدمّر، وغطّت أرض حياة الإنسان، فلن يبقى غير الخراب، وأحياناً فإنّ أعمالا ظاهرها أنّها بسيطة تبدأ بالتأثير تدريجياً على الاُسس، حتّى ينهار كلّ شيء، لذا يجب الخوف والحذر حتّى من هذه الاُمور الصغيرة التافهة ظاهراً. 5- آخر ما نروم الإشارة إليه، هو أنّ ذلك المصير العجيب يثبت مرّة اُخرى حقيقة أنّ (الموت) مخفي في جوهر حياة الإنسان، ونفس الشيء الذي يكون سبباً لحياة الإنسان وعمرانها يوماً، يكون عامل موته وهلاكه في يوم آخر. ﴿فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا﴾ إلى الشام سألوه أن يجعلها مفاوز ليتطاولوا على الفقراء ركوب الرواحل وحمل الزاد ﴿وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ﴾ بالكفر والبطر ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ﴾ لمن بعدهم واتخذهم مثلا يقولون تفرقوا أيدي سبأ ﴿وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ فرقناهم في البلاد كل تفريق ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ المذكور ﴿لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ﴾ عن المعاصي ﴿شَكُورٍ﴾ على النعم.