التّفسير
تعني لفظة "الفاحشة" حسب اللّغة: العمل أو القول القبيح جدّاً - كما أسلفنا ـ، ويستعمل في الزنا لقبحه الشديد، وقد وردت هذه اللفظة في (13) مورداً من القرآن الكريم، وقد استعملت تارةً في "الزّنا" وأُخرى في "اللواط" وتارةً في الأفعال الشديدة القبح على العموم.
والآية الأُولى - من هاتين الآيتين - تشير كما فهم أكثر المفسرين - إِلى جزاء المرأة المحصنة التي تزني.
فتقول: (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهنّ أربعة منكم فإِن شهدوا فامسكوهنّ في البيوت حتى يتوفاهنّ الموت).
وما يدل على أنّ الآية المبحوثة تعني زنا المحصنة - مضافاً إِلى القرينة المذكورة في الآية اللاحقة - التعبير بـ "من نسائكم" أي زوجاتكم، لأنّ التعبير بهذه اللفظة عن الزوجات قد تكرر في مواضع عديدة من القرآن الكريم، وعلى هذا يكون جزاء المحصنة التي ترتكب الزنا في هذه الآية هو الحبس الأبدي.
ولكنه تعالى أردف هذا الحكم بقوله: (يأو يجعل الله لهنّ سبي) فإِذن لابدّ أن يستمر هذا الحبس في حقهنّ إِلى الأبد حتى يأتي أجلهنّ، أو يعين لهنّ قانون جديد من جانب الله سبحانه.
ويستفاد من هذه العبارة أنّ هذا الحكم (أي الحبس الأبدي للمحصنة الزانية) حكم مؤقت، ولهذا ذكر من بداية الأمر أنّه سوف ينزل في حقهنّ قانون جديد، وحكم آخر في المستقبل (وبعد أن تتهيأ الظروف والأفكار لمثل ذلك) حينئذ سيتخلص النساء اللاتي شملهنّ ذلك الحكم (أي الحكم بالحبس أبداً) من ذلك السجن إِذا كن على قيد الحياة طبعاً، ولا يشملهنّ حكم جزائي آخر، وليس الخلاص من السجن إِلاّ بسبب إِلغاء الحكم السابق، وأما عدم شمول الحكم الجديد لهنّ فلئن الحكم الجزائي لا يشمل الموارد التي سبقت مجيئه، وبهذا يكون الحكم والقانون الذي سيصدر في ما بعد - مهما كان - سبباً لنجاة هذه السجينات، على أنّ هذا الحكم الجديد يشمل حتماً كل الذين سيرتكبون هذا المنكر في ما بعد.
(فلاحظ بدقّة هذه النقطة).
وأمّا ما احتمله البعض من أنّ المراد من قوله تعالى: (أو يجعل الله لهنّ يسبي)هو أنّ الله سبحانه قد جعل الرجم للمحصنات الزانيات في ما بعد، يجعل يوبذلك سيكون للسجينات سبي إِلى النجاة والخلاص من عقوبة السجن، فهو احتمال مردود، لأنّ لفظة "لهنّ سبيلاً" لا تتلاءم أبداً مع مسألة الأعدام، فعبارة ي"لهنّ" تعني ما يكون نافع لهنّ وليس الاعدام سبي لنجاتهنّ، والحكم الذي قرّره الله في الإِسلام للمحصنات الزانيات في ما بعد هو الرجم (وقد ورد هذا الحكم في لسان السنة النبوية الشريفة أي الأحاديث قطعاً، وإِن لم ترد في القرآن الكريم أية إِشارة إِليها).
من كلّ ما قلناه اتّضح أنّ الآية الحاضرة لم تنسخ قط، لأنّ النسخ إِنّما يكون في الأحكام التي تردّ مطلقة من أوّل الأمر لا التي تذكر مؤقتة ومحدودة كذلك، والحكم المذكور في الآية الحاضرة (أي الحبس الأبدي) من القسم الثّاني، أي أنّه حكم مؤقت محدود، وما نجده في بعض الرّوايات من التصريح بأنّ الآية الحاضرة قد نسخت بالأحكام التي وردت في عقوبة مرتكبي الفاحشة، فالمراد منه ليس هو النسخ المصطلح، لأنّ النسخ في لسان الروايات والأخبار يطلق على كل تقييد وتخصيص (فلاحظ ذلك بدقّة وعناية).
ثمّ لابدّ من الإِلتفات إِلى ناحية مهمّة، وهي أن الحكم بحبس هذا النوع من النساء في "البيوت" من صالحهن من بعض الجهات، لأنّه أفضل - بكثير - من سجنهن في السجون العامّة المتعارفة، هذا مضافاً إِلى أن التجربة قد دلّت أن للسجون والمتعقلات العامّة أثراً سيئاً وعميقاً في إِفساد المجتمع، إذ أنّ هذه المراكز تتحول - شيئاً فشيئاً - إِلى معاهد كبرى لتعليم شتى ألوان الجريمة والفساد بسبب أن المجرمين سيتبادلون فيها - من خلال المعاشرة واللقاء وفي سعة من الوقت وفراغ من الشغل - تجاربهم في الجريمة.
﴿وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ﴾ أي الزنا ﴿فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ﴾ اطلبوا من قاذفهن أربعة رجال من المؤمنين ﴿فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ﴾ كان ذلك عقوبتهن في أول الإسلام فنسخ بالحد ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً﴾ هو النكاح أو الحد قيل لما نزلت آية الجلد قال (صلى الله عليه وآله وسلّم) قد جعل الله لهن سبيلا.