لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
في الآية الأخيرة من هذه الآيات والتي هي عبارة عن الأمر الخامس للرسول (ص) يعود القرآن إلى الحديث مرّة اُخرى في مسألة التوحيد التي ابتدأ بها ليختمه بها، يقول تعالى: (قل أروني الذين ألحقتم به شركاء). فما هي قيمة هؤلاء وقابلياتهم؟ فإن كان مقصودكم حفنة الحجر والخشب الجامدة الميتة. فإنّ ذلك لممّا يدعو إلى الخجل ويدلّل على سوء التوفيق أن تتوهّموا تشابه أحقر الموجودات - وهي الجمادات ممّا صنعت أيديكم - مع الله تعالى. وإن إعتقدتم بأنّها تمثّل الأرواح والملائكة فالمصيبة أعظم، لأنّ هؤلاء أيضاً مخلوقات له سبحانه وتعالى، ومنفذة لأوامره. لذا فبعد هذه الجملة مباشرة، وبكلمة واحدة يشطب على هذه الأباطيل فيقول: (كلاّ) فهذه الأشياء لا تستحقّ أن تعبد أبداً وهذه الأوهام والتصورات ليس لها شيء من الواقعية، فإلى متى تسلكون هذه الطريقة الخاطئة. وكلمة "كلاّ" مع صغرها استبطنت كلّ هذه المعاني. ثمّ لأجل تأكيد وتثبيت هذا المعنى يقول مختتماً الحديث (بل هو الله العزيز الحكيم). فعزّته وقدرته الخارقة، تقتضي الدخول في حريم ربوبيته، وحكمته تقتضي توجيه هذه القدرة في محلّها. نعم، فإنّ إمتلاك هذه الصفات علامة كونه واجب الوجود، وواجب الوجود وجود لا نهاية له ولا حدّ، وغير قابل للتعدّد، ولا شريك له ولا شبيه، لأنّ أي تعدّد له يعني حدّه وإمكانيته، بينما "الوجود اللا متناهي" دائماً وأبداً واحد لا غير "تأمّل". بحث طريق تسخير القلوب: كثيراً ما يلاحظ أفراد فضلاء وعلى مستوى من العلم والمعرفة، لا يمكنهم النفوذ في أفكار الآخرين، لعدم إطّلاعهم على الفنون الخاصّة بالبحث والإستدلال، وعدم رعايتهم للجوانب النفسية، على عكس البعض الآخر الذين ليسوا على وفرة من العلم، إلاّ أنّهم موفّقين من ناحية جذب القلوب وتسخيرها والنفوذ في أفكار الآخرين. والعلّة الأساسية لذلك هي أنّ طريقة البحث، واُسلوب التعامل مع الطرف المقابل يجب أن تكون مقرونة باُصول وقواعد تتّسق مع الخُلُق والروح، فلا تستثار الجوانب السلبية في الطرف المقابل، كي لا يندفع إلى العناد والإصرار، إذ أنّ مراعاة الجانب النفسي ستؤدّي إلى إيقاظ وجدانه وإثارة روح البحث عن الحقيقة وإحيائها فيه. والمهمّ هنا أن نعلم أنّ الإنسان ليس فكراً وعقلا صرفاً كي يستسلم أمام قدرة الإستدلال، بل علاوةً على ذلك فإنّ مجموعة من العواطف والأحاسيس التي تشكّل جانباً مهمّاً من روحه مطوية في وجوده، والتي يجب إشباعها بشكل صحيح ومعقول. والقرآن الكريم علّمنا كيفية مزج البحوث المنطقية بالاُصول الأخلاقية في المحاورة، حتّى تنفذ في أرواح الآخرين. شرط التأثير والنفوذ في روح الطرف المقابل هو إحساس الطرف المقابل بأنّ المتحدّث يتحلّى بالصفات التالية: 1- مؤمن بما يقول، وما يقوله صادر من أعماقه. 2- هدفه من البحث طلب الحقّ، وليس التفوّق والتعالي. 3- لا يقصد تحقير الطرف المقابل، وإعلاء شأن نفسه. 4- ليس له مصلحة شخصية فيما يقول، بل إنّ ما يقوله نابع من الإخلاص. 5- يكنّ الإحترام للطرف المقابل، لذا فهو يستخدم الأدب والرقّة في تعبيراته. 6- لا يريد إثارة العناد لدى الطرف المقابل، ويكتفي من البحث في موضوع بالمقدار الكافي، دون الإصرار على إثبات أنّ الحقّ إلى جانبه. ليعرض حديثه. 7- منصف، لا يفرط بالإنصاف أبداً، حتّى وإن لم يراع الطرف المقابل هذه الاُصول. 8- لا يقصد تحميل الآخرين أفكاره، بل يرغب في إيجاد الدافع لدى الآخرين حتّى يوصلهم إلى الحقيقة بمنتهى الحرية. الدقّة المتناهية في هذه الايات، واُسلوب تعامل الرّسول (ص) - بأمر الله - مع المخالفين، المقترن بكثير من اللفتات الجميلة، تعتبر دليلا حيّاً على ما ذكرناه. فهو أحياناً يصل إلى حدّ لا يشير بدقّة إلى المهتدي أو المضلّ في أحد الفريقين، بل يقول: (وإنّا وإيّاكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين) حتّى يثير في الذهن التساؤل عن علامات الهدى أو الضلال في أي الفريقين. أو يقول: (قل يجمع بيننا ربّنا ثمّ يفتح بيننا بالحقّ). طبعاً لا يمكن إنكار أنّ كلّ ذلك بالنسبة إلى الأشخاص المؤمّل إهتداؤهم، وإلاّ فإنّ القرآن يتعامل مع الأعداء المعاندين والظلمة القساة الذين لا يؤمّل منهم القبول بذلك بطريقة اُخرى. اُسلوب محاورات الرّسول (ص) والأئمّة (ع) مع مخالفيهم يمثّل نموذجاً حيّاً في هذا المجال، وكمثال على ذلك لاحظوا ما ورد عن الإمام الصادق (ع) بهذا الخصوص في كتب الحديث: ففي أوائل كتاب توحيد المفضّل نقرأ "روى محمّد بن سنان قال: حدّثني المفضّل بن عمر قال: كنت ذات يوم بعد العصر جالساً في الروضة الشريفة بين القبر والمنبر، وأنا مفكّر فيما خصّ الله تعالى به سيّدنا محمّداً (ص)، من الشرف والفضائل، وما منحه وأعطاه وشرّفه وحباه، ممّا لا يعرفه الجمهور من الاُمّة وما جهلوه من فضله وعظيم منزلته، وخطير مرتبته، فإنّي لكذلك إذ أقبل "ابن أبي العوجاء، "رجل ملحد معروف". إلى أن يذكر أحاديث هذا الرجل التي سمعها المفضّل... إلى أن (قال المفضّل): فلم أملك نفسي غضباً وغيظاً وحنقاً، فقلت: ياعدوّ الله ألحدت في دين الله، وأنكرت الباري جلّ قدسه الذي خلقك في أحسن تقويم وصوّرك في أتمّ صورة، ونقلك في أحوالك حتّى بلغ إلى حيث إنتهيت. فلو تفكّرت في نفسك وصدقك ولطيف حسّك، لوجدت دلائل الربوبية وآثار الصنعة فيك قائمة، وشواهده جلّ وتقدّس في خلقك واضحة، وبراهينه لك لائحة، فقال: ياهذا إن كنت من أهل الكلام كلّمناك فإن ثبتت لك حجّة تبعناك، وإن لم تكن منهم فلا كلام لك، وإن كنت من أصحاب جعفر بن محمّد الصادق فما هكذا تخاطبنا، ولا بمثل دليلك تجادل فينا، ولقد سمع من كلامنا أكثر ممّا سمعت، فما أفحش في خطابنا، ولا تعدّى في جوابنا، وإنّه الحليم الرزين، العاقل الرصين، لا يعتريه خرق ولا طيش ولا نزق، يسمع كلامنا، ويصغي إلينا ويتعرّف حجّتنا، حتّى إذا إستفرغنا ما عندنا، وظننا أنّا قطعناه، دحض حجّتنا بكلام يسير، وخطاب قصير يلزمنا به الحجّة، ويقطع العذر، ولا نستطيع لجوابه ردّاً، فإن كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه"(6). ﴿قُلْ أَرُونِي﴾ أعلموني ﴿الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاء﴾ في استحقاق العبادة ﴿كَلَّا﴾ ردع لهم ﴿بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ﴾ الغالب بقدرته ﴿الْحَكِيمُ﴾ في تدبيره فلا إله غيره.