لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير الثّورة الفكرية أساس لأيّ ثورة أصيلة: في هذا المقطع من الآيات والآيات التالية، والتي تشكّل أواخر سورة سبأ المباركة، يؤمر الرّسول الأكرم (ص) مرّة اُخرى بدعوة هؤلاء بالأدلّة المختلفة ليؤمنوا بالحقّ، ويرجعوا عن ضلالهم، وكما مرّ في البحوث السابقة فقد خوطب الرّسول (ص) خمس مرّات بأن قيل له (قل...). ففي الآية الاُولى إشارة إلى اللبنة الأساسية في كلّ التحوّلات والتبدلات الإجتماعية والأخلاقية والسياسية والإقتصادية والثقافية، فتقول وبجمل قصيرة وعميقة المعنى (قل إنّما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثمّ تتفكّروا ما بصاحبكم من جنّة إن هو إلاّ نذير لكم بين يدي عذاب شديد). كلمات وتعبيرات هذه الآية يشير كلّ منها إلى موضوع هامّ، نجملها في عشرة نقاط كما يلي: 1- جملة "أعظكم" توضّح في الحقيقة واقع أنّ الرّسول (ص) يريد القول بأنّي ألحظ فيما أقول لكم خيركم وصلاحكم دون أيّ شيء آخر. 2- التعبير بـ "واحدة" مع إرتباطه بالتأكيد بواسطة "إنّما" إشارة معبّرة إلى أنّ أصل جميع الإصلاحات الفردية والجماعية، إنّما هي بإعمال الفكر، فما دام تفكير الاُمّة في سبات فستكون هدفاً لسرّاق ولصوص الدين والإيمان والحرية والإستقلال، ولكن حينما تصحوا الأفكار فإنّها تقطع الطريق أمام هؤلاء. 3- التعبير بـ "قيام" ليس معناه مجرّد الوقوف على القدمين، بل معناه الإستعداد لإنجاز العمل، بلحاظ أنّ الإنسان بوقوفه على قدميه إنّما يكون مستعدّاً لإتمام البرامج الحياتية المختلفة، وعليه فإنّ التفكّر يحتاج إلى إستعداد قبلي، لكي يوجد السبب والمحرّك في الإنسان الذي يدفعه بالإرادة والتصميم إلى التفكّر. 4- تعبير "لله" يوضّح أنّ القيام والإستعداد يجب أن يكون باعثه إلهياً، والتفكّر الذي يكون صادراً عن هذا الدافع له قيمة عالية، فالإخلاص في العمل عادةً - وحتّى في التفكّر - هو الأساس للنجاة والسعادة والبركة. والملفت للنظر هو إعتبار الإيمان بالله هنا أمراً مسلّماً، وعليه فالتفكّر المطلوب إنّما هو في مسائل اُخرى، وتلك إشارة إلى أنّ التوحيد إنّما هو أمر فطري واضح يدرك حتّى بدون تفكّر. 5- التعبير بـ "مثنى وفرادى" إشارة إلى أنّ التفكّر يجب أن يكون بعيداً عن الغوغائية والفوضى، بأن يقوم الناس آحاداً أو على الأكثر مثنى ويتفكّرون، لأنّ التفكّر وسط الضوضاء والغوغائية لا يمكنه أن يكون عميقاً، خصوصاً وأنّ عوامل الذاتية والتعصّب في طريق الدفاع عن الإعتقادات الشخصية ستكون أشدّ فعلا في التجمّعات الأكبر. بعض المفسّرين إحتمل أن يكون هذان التعبيران إشارة إلى الإفادة من المشورة بالخلط بين الأفكار الفردية والجماعية، فالإنسان يجب أن يتفكّر منفرداً وكذلك يستفيد من أفكار الآخرين، لأنّ الإستبداد بالرأي والفكر سبب للعجب، والتشاور والتعاون لأجل حلّ المشكلات العلمية - والذي لا يؤدّي إلى الغوغاء - سيعطي حتماً - أثراً أفضل، ويمكن أن يكون تقديم "مثنى" على "فرادى" في الآية لهذا السبب. 6- الملفت للنظر أنّ القرآن الكريم يقول هنا "تتفكّروا" دون أن يذكر بماذا؟ فحذف المتعلّق دليل على العموم، أي في كلّ شيء، في الحياة المعنوية والمادية، في الاُمور الكبيرة والصغيرة. وبكلمة: في كلّ أمر يجب التفكّر أوّلا، وأهمّ من ذلك كلّه هو التفكّر للعثور على الإجابة للأسئلة الأربعة التالية: من أين جئت؟ لأي شيء أتيت؟ إلى أين أذهب؟ وأين أنا الآن؟ ولكن بعض المفسّرين ذهبوا إلى أن "تتفكّروا" تتعلّق بالجملة التي تليها وهي "ما بصاحبكم من جنّة" بمعنى أنّكم لو تفكّرتم قليلا لوجدتم أنّ الرّسول (ص) منزّه عن إتّهامكم الواهي له بالجنون. والظاهر أنّ المعنى الأوّل أوضح. ومن البديهي أنّ من الاُمور التي يجب التفكّر بها هي مسألة النبوّة والصفات العالية التي كان يتمتّع بها شخص النّبي (ص) دون أن تكون منحصرة بذلك. 7- تعبير "صاحبكم" إشارة إلى الرّسول الأكرم (ص) وإنّه ليس نكرة بالنسبة لكم، فقد كان بينكم لسنوات طويلة. لقد عرفتموه بالأمانة والصدق والإستقامة، ولم تجدوا حتّى الآن نقطة ضعف واحدة في مسيرة حياته، لذا فعليكم بالإنصاف قليلا، فالتّهم التي تلصقونها به لا أساس لها جميعاً. 8- "جنّة" بمعنى "جنون" وفي الأصل من مادّة "جن" بمعنى ستر الشيء عن الحاسّة، ومن كون أنّ (المجنون) سُتر عقله، فقد اُطلق عليه هذا التعبير، والجدير بالملاحظة هنا هو أنّ العبارة تريد الكشف عن هذه الحقيقة، وهي أنّ من يدعو إلى التفكّر والإنتباه كيف يكون هو مجنوناً، والحال أنّ مناداته بالتفكّر إنّما هي دليل على تمام عقله ودرايته. 9- جملة (إن هو إلاّ نذير لكم) تلخّص رسالة الرّسول الأكرم (ص) في مسألة "الإنذار" أي: التحذير من المسؤولية، ومن المحكمة الإلهية، والعقاب الإلهي، صحيح أنّ للرسول (ص) رسالة في "التبشير" أو "البشارة" ولكن الذي يدفع الإنسان أكثر إلى التحرّك هو "الإنذار"، لذا فقد ذُكرت مسألة "الإنذار" في آيات اُخرى من القرآن الكريم على أنّها وظيفة الرّسول الأكرم الأساسية، كما في من سورة الأحقاف (وما أنا إلاّ نذير مبين)، كما ورد كذلك شبيه هذا المعنى في الآية 65 من سورة (ص) وآيات اُخرى. 10- التعبير بـ (بين يدي عذاب شديد) إشارة إلى أنّ القيامة قريبة إلى درجة وكأنّها أمام العين، والحقّ أنّها كذلك بالنسبة إلى عمر الدنيا، كذلك فقد ورد في الروايات الإسلامية نظير هذا المعنى كما في الأثر عن الرّسول الأكرم (ص) قال: "بعثت أنا والساعة كهاتين" وضمّ (ص) الوسطى والسبّابة. ملاحظتان 1- إستقلال آيات القرآن الكريم وتفسيرها المنحرف. لقد إتّضح لدينا من خلال تفسير الآية الأخيرة بأنّ الأصنام والأوثان وما يعبد من دون الله تعالى ليس لها آذان صاغية لما يُطلب منها، وإن كان لها فهي غير قادرة على حلّ مشكلة ما، وليس لها في هذا العالم أيّ ملك ولو بقدر رأس الإبرة (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم) وعلى هذا الأساس اتّخذ الوهّابيون هذه الآية ذريعة لهم للإدّعاء بأنّ كلّ شيء ما خلا الله جلّ وعلا - وإن كان نبيّاً - لا يسمع دعاءً، وإن سمع فلا يجيب! كما رفضوا أي نوع من التوسّل بأرواح الأنبياء والأئمّة والأولياء. واعتبروا ذلك مخالفاً للتوحيد محتجّين بقوله تعالى: (والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون). ولو أمعنا النظر في الآيات السابقة واللاحقة لهذه الآية للاحظنا أنّ المقصود من قوله: (من دونه) هي الأصنام لا غير، وذلك يصدق على مجموعة الأحجار والأخشاب وغيرها والتي كانت في نظر مشركي الجاهلية بأنّها ذات قدرة إزاء قدرة الخالق الكريم جلّ وعلا، كما أنّ الأنبياء والأولياء وحتّى الشهداء في سبيل الله أحياء في البرزخ، وحياة البرزخ - كما هو معلوم - مجرّدة من الحجب المادية ومتعلّقات الدنيا ممّا يجعلها أوسع منها. يضاف إلى ذلك فإنّ التوسّل بالأرواح الطاهرة للأنبياء والأئمّة (ع) لا يعني إقرارنا لهم بالإستقلالية إزاء الخالق الكريم، بل إنّنا إنّما نطلب العون والمدد من مقامهم وجاههم في حضرة الباريء العزيز، وهذا هو عين التوحيد (تأمّلوا جيداً). وقد صرّح القرآن الكريم بأنّ الشفيع إنّما يشفع بإذن الله تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه) فمن يستطيع إنكار مثل هذه الآيات الصريحة غير الجهلة المغرورين الذين هتفوا بمثل هذه الإدّعاءات لزرع الفرقة بين المسلمين؟! وفي كثير من الحالات نقرأ في سيرة الصحابة أنّهم حينما تحيق بهم المشكلات يأتون إلى قبر الرّسول (ص) ويتوسّلون إليه، ويطلبون العون من الله عزّوجلّ بشفاعة روحه الطاهرة. مثالنا على ذلك ما ذكره "البيهقي" من محدّثي العامّة، قال: في زمن الخليفة الثّاني مرّ في الناس قحط وجدب، ممّا حدا ببلال وعدد من الصحابة إلى الذهاب لقبر رسول الله وقالوا عنده: "يارسول الله، استق لاُمّتك... فإنّهم قد هلكوا"(1). كما نقل "الآلوسي" في (روح المعاني) الكثير من الأحاديث في هذا الصدد، وبعد المناقشة لهذه الأحاديث يخرج بالقول: إنّني لا أرى مانعاً من التضرّع لله جلّوعلا بمقام الرّسول الأكرم في حياته أو بعد مماته... ثمّ انّ الآخرين الذين يمتلكون مقاماً وقرباً من الخالق الكريم يجوز التوسّل بالله سبحانه بواسطتهم(2). ولمزيد من الإطلاع راجع تفسيرنا هذا، ذيل الآية 35 من سورة المائدة. 2- جانب من الروايات الإسلامية في التفكّر والتأمّل: إهتّمت الرواية الإسلامية - وعلى خطى القرآن الكريم - بمسألة التفكّر إلى حدّ أن جعلتها في المقام الأوّل من الأهميّة، ويلاحظ المطالع للروايات تعبيرات جميلة ومعبّرة أوردنا نماذج منها هنا: ألف - التفكّر أعظم عبادة: نقرأ عن الإمام الرضا (ع) "ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم إنّما العبادة التفكّر في أمر الله عزّوجلّ"(3). ونقرأ في رواية اُخرى: "كان أكثر عبادة أبي ذكر التفكّر"(4). ب - ساعة تفكّر أفضل من ليلة من العبادة: عن الحسن الصيقل قال: سألت أبا عبدالله الصادق (ع): عمّا يروي الناس أنّ تفكّر ساعة خير من قيام ليلة، قلت: كيف يتفكّر؟ قال: "يمرّ بالخربة أو بالدار فيقول: أين ساكنوك وأين بانوك، ما لك لا تتكلّمين؟"(5). ج - التفكّر مصدر العمل: قال أمير المؤمنين (ع): "إنّ التفكّر يدعو إلى البرّ والعمل به"(6). ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ﴾ على التبليغ ﴿فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ مطلع يعلم صدقي.