ثمّ تنتقل الآيات لتوضيح أهم البرامج للبشرية، فتقول الآية الكريمة: (إنّ وعد الله حقّ) فالقيامة والحساب والكتاب والميزان والجزاء والعقاب والجنّة والنار كلّها وعود إلهية لا يمكن أن يُخلفها الله تعالى.
ومع الإنتباه إلى هذه الوعود الحقّة: (فلا تغرنّكم الحياة الدنيا ولا يغرنّكم بالله الغَرور) فلا ينبغي أن تخدعكم الحياة الدنيا، ولا يخدعكم الشيطان بعفو الله ورحمته... أجل، إنّ عوامل الإثارة، وزخارف الدنيا وزبارجها، إنّما تريد أن تملأ قلوبكم، وتلهيكم عن تلك الوعود الإلهيّة العظيمة، وكذلك فإنّ شياطين الجنّ والإنس دائمة السعي بوساوسها وإغرائها وبمختلف وسائل الخداع والإحتيال، وهي أيضاً تريد إلفات إهتمامكم إليها، وإلهائكم عن التفكير في ذلك اليوم الموعود، فإن تمكّنت أضاليلهم وخدعهم منكم، فقد ضاعت عليكم حياتكم بأكملها، وكانت سعادتكم وآمالكم نقشاً على الماء، فالحذر الحذر!!
إنّ تكرار التنبيه للناس لكي لا يغتّروا بوساوس الشياطين أو بزخارف الدنيا- في الحقيقة- إشارة إلى أنّ للذنوب طريقين للولوج إلى النفس الإنسانية:
1- مظاهر الدنيا الخدّاعة، كالجاه والمقام والمال والكبرياء وأنواع الشهوات.
2- الإغترار بعفو الله وكرمه، وهنا فإنّ الشيطان يزيّن الدنيا في نظر الإنسان ويصوّرها له متاعاً مباحاً وجذّاباً ومحبّباً وقيّماً من جهة.
ومن جهة اُخرى فإنّه كلّما أراد الإنسان أن يتذكّر الآخرة ومحكمة العدل الإلهي ومقاومة الجاذبية الشديدة للدنيا وخِدعها، فانّه يغريه بعفو الله ورحمته، فيدفعه بالنتيجة إلى التسويف والطغيان وإرتكاب الذنوب. غافلا عن أنّ الله سبحانه مع كونه في موضع الرحمة و "أرحم الراحمين" فهو تعالى في موضع العقوبة "أشدّ المعاقبين"، فإنّ رحمته لا يمكن أن تكون أبداً باعثاً على المعصية، كما أنّ غضبه لا يمكن أن يكون سبباً لليأس والقنوط.
"غَرور" صيغة مبالغة بمعنى الخدّاع أو المضلّل غير العادي، والظاهر أنّه إشارة إلى جميع عوامل الإغواء والخداع، كما أنّه قد يكون إشارة إلى خصوص الشيطان. وإن كان المعنى الثاني أكثر مناسبة للآية الثانية، خاصّة إذا علمنا أنّ القرآن الكريم نسب "الغرور" إلى الشيطان في آيات مختلفة.
بعض المفسّرين، لهم تحليل خاص هنا ملخّصه: أنّ الناس الذين يتعرضون لعوامل الخداع والإغراء ثلاثة أصناف:
1- صنف ضعيف وليس له قدرة بحيث أنّه يخدع بأبسط الحيل.
2- صنف أقوى من الأوّل، لا يخدعون فقط بزخرف الدنيا وزبرجها، بل مع ضمّ وساوس الشياطين الذين يعملون على تحريك شهواتهم ويهوّنون لهم مفاسد أعمالهم عندها يمكن خداعهم. فالملذّات الدنيوية من جهة، والوساوس الشيطانية من جهة اُخرى، تدفعهم إلى إرتكاب أعمال قبيحة وسيّئة.
3- أمّا الصنف الثالث وهو الأقوى والأعلم، فهم لا يغتّرون بأنفسهم ولا يمكن لأحد خداعهم.
وجملة (فلا تغرنّكم الحياة الدنيا) إشارة إلى الصنف الأوّل، وجملة (ولا يغرنّكم بالله الغرور) إشارة إلى الصنف الثاني، وأمّا الصنف الثالث فهم مصداق قوله: (إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان)(1).
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ﴾ بالبعث وغيره ﴿حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ فيلهيكم التمتع بها عن الآخرة ﴿وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ الشيطان بأن يجرئكم على عصيان الله.