التّفسير
العجائب المختلفة للخلقة:
مرّة اُخرى تعود هذه الآيات إلى مسألة التوحيد، وتفتح صفحة جديدة من كتاب التكوين أمام ذوي البصائر من الناس، لكي ترد بعنف على المشركين المعاندين ومنكري التوحيد المتعصّبين.
لفتت هذه الصفحة المشرقة من كتاب الخلق العظيم إلى تنوّع الجمادات والمظاهر المختلفة والجميلة للحياة في عالم النبات والحيوان والإنسان، وكيف جعل الله سبحانه من الماء العديم اللون الآلاف من الكائنات الملوّنة، وكيف خلق من عناصر معيّنة ومحدودة موجودات متنوّعة أحدها أجمل من الآخر.
فهذا النقاش الحاذق أبدع بقلم واحد وحبر واحد أنواع الرسوم والأشكال التي تجذب الناظرين وتحيّرهم وتدهشهم.
أوّلا تقول الآية الكريمة: (ألم تر أنّ الله أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها).
شروع هذه الجملة بالإستفهام التقريري، وبتحريك حسّ التساؤل لدى البشر، إشارةً إلى أنّ هذا الموضوع جلي إلى درجة أنّ أي شخص إذا نظر أبصر، نعم، يبصر هذه الفواكه والزهور الجميلة والأوراق والبراعم المختلفة بأشكال مختلفة تتولّد من ماء وتراب واحد.
"ألوان": قد يكون المراد "الألوان الظاهرية للفواكه" والتي تتفاوت حتّى في نوع الفاكهة الواحد كالتفّاح الذي يتلوّن بألوان متنوعة ناهيك عن الفواكه المختلفة. وقد يكون كناية عن التفاوت في المذاق والتركيب والخواص المتنوّعة لها، إلى حدّ أنّه حتّى في النوع الواحد من الفاكهة توجد أصناف متفاوتة، كما في العنب مثلا حيث أنّه أكثر من 50 نوعاً، والتمر أكثر من سبعين نوعاً.
والملفت للنظر هو إستخدام صيغة الغائب في الحديث عنه عزّوجلّ، ثمّ الإنتقال إلى صيغة المتكلّم، وهذا النوع من التعابير، غير منحصر في هذه الآية فقط، بل يلاحظ في مواضع اُخرى من القرآن المجيد أيضاً، وكأنّ الجملة الاُولى تعطي للمخاطب إدراكاً ومعرفة جديدة، وتستحضره بهذا الإدراك والمعرفة بين يدي الباري عزّوجلّ، ثمّ عنده حضوره يلقى عليه الحديث مباشرةً.
ثمّ تُشير الآية إلى تنوّع أشكال الجبال والطرق الملوّنة التي تمرّ من خلالها وتؤدّي إلى تشخيصها وتفريقها الواحدة عن الاُخرى. فتقول: (ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود)(1).
هذا التفاوت اللوني يضفي على الجبال جمالا خاصّاً من جهة، ومن جهة اُخرى، يكون سبباً لتشخيص الطرق وعدم الضياع فيما بين طرقها المليئة بالإلتواءات والإنحدارات، وأخيراً فهو دليل على أنّ الله على كلّ شيء قدير.
"جدد" جمع "جدّة"- على وزن غدّة- بمعنى الجادّة والطريق.
"بيض" جمع "أبيض" كما أنّ "حمر" جمع "أحمر" وهو إشارة إلى الألوان.
"غرابيب" جمع "غربيب"- على وزن كبريت- وهو المشبّه للغراب في السواد، كقولك أسود كحلك الغراب. وعليه فإنّ ذكر كلمة "سود" بعدها والتي هي أيضاً جمع "أسود" تأكيد على شدّة وحلك السواد في بعض الطرق الجبلية(2).
وإحتمل أيضاً أن يكون التّفسير: ألم تر أنّ الجبال نفسها مثل طرائق بيضاً وحمراً وسوداً مختلفاً ألوانها خطّت على سطح الأرض، وخاصّة إذا نظر إليها الشخص من فاصلة بعيدة، فانّها تُرى على شكل خطوط مختلفة ممدودة على وجه الأرض بيض وحمر وسود مختلف ألوانها(3).
على كلّ حال فإنّ تشكيل الجبال بألوان مختلفة من جهة، وتلوين الطرق الجبلية بألوان متفاوتة، من جهة اُخرى، دليل آخر على عظمة وقدرة وحكمة الله سبحانه وتعالى والتي تتجلّى وتتزيّن كلّ آن بشكل جديد.
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا﴾ التفات إلى التكلم ﴿بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا﴾ أصنافها أو هيئتها من صفرة وحمرة وغيرهما ﴿وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ﴾ جمع جدد الخطة والطريقة أي خطط وطرائق ﴿بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا﴾ بالشدة والضعف ﴿وَغَرَابِيبُ﴾ عطف على جدد أي ومنها شديدة السواد لا خطط فيها وهي تأكيد لمضمر يفسره ﴿سُودٌ﴾ إذ التأكيد متأخر عن المؤكد